*عدنان الصباح
خاص ( ثقافات )
الجميع في المقهى مشدودين إلى الشاشة المعلقة على الحائط, لا احد يلتفت حوله حتى وحين حاولت المرور من بينهم لم يلتفت احد إلي حتى وأنا ادفعهم ليفسحوا لي الطريق, المنظر نفسه كان في المقهى الثاني وفي السوبر ماركت المجاور, سائق تاكسي أوقف سيارته وجلس يراقب شاشة احد المحلات من الخارج, شاب يجلس على قارعة الطريق ويتابع مباراة ريال مدريد, صوت المعلق وأصوات المباراة تنبعث من خلف أبواب البيوت, كل ما في الشارع كان منهمكا بمتابعتها, تلك كانت مباراة لفرق اسبانية والجمهور فلسطيني والتجاذب بين مؤيد ومعارض هذا الفريق أو ذاك على أشده, كل هذا الحماس والانسجام تراه أحيانا على قمصان الشباب وتسمعه في حواراتهم,
في مكان آخر كان عدد من الشباب منشغلين بأجهزتهم النقالة الحديثة, لا احد يتحدث مع جاره ولا ينظر اليه, سيدة وزوجها يجلسون في احد المقاهي وكلاهما منشغل بجهازه النقال, ساعتين لم يكلم احد منهم الآخر, الشباب يقصون شعرهم اليوم حسب نموذج جنود المارينز وهو اسم القصة ” مارينز ”
يعيش العربي منذ بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين في زمن مختلف عن كل الأزمان التي مر بها, زمن لا ينتميه أبدا ولا يعرفه أبدا, زمن يصر على إشاحة وجهه عن العربي فيما لا يجد العربي بدا من اللهاث خلفه خشية الإفلات من جاذبية الوجود والعيش في حال من انعدام الوزن, وهو بهذا يشبه إلى حد بعيد ذلك العامل الذي رأى القطار يتحرك وراح يجري خلفه فلا خيار أمامه سوى القدرة على اللحاق وهو غير قادر على التفكير بالبدائل للوصول إلى عمله, سيركض طويلا هذا العامل ولن يصل ولن تخرج صورة القطار من رأسه وهو يمضي بعيدا عنه وهو لن يجد بدا من مواصلة اللحاق لعله يقول لرب عمله انه ظل يحاول الوصول رغم كل شيء.
إلى أين سنصل وأي الأحصنة سنمتطي وهل هناك أصلا أحصنة لنا تملك صوت صهيلنا وتعرف شكل وأسلوب ركوبنا أم العكس هو الصحيح, لشديد الأسف كل الخيول التي غابت بعد انهيار بناءنا, كل الخيول التي تركتنا نهرب من أنفسنا لم تعد لنا, قد يكون صحيحا أننا نحن من أوصلنا الخيول إلى أوروبا ونحن على ظهورها, لكن الأصح جدا أننا عدنا مهشمين ونحن نحاول الهرب بينما خيولنا تحاول الصمود فوقعنا بين أقدامها وهشمتنا وظلت هناك فلا خيل لمن يغادر ظهرها.
العالم الحديث يعتبر الرياضيات العلم الأهم بين العلوم أو أساس العلوم وحامل لوائها القادر على ضبط أدائها فالرياضيات هي الوجه الآخر للفلسفة ففي حين تعتبر الفلسفة علم العلوم على قاعدة أنها علم إدارة الكيف وتفسيره وفهمه وسبر غوره والانتقال به إلى الأمام فعلم الرياضيات أيضا هو علم العلوم على قاعدة أنها علم إدارة الكم وتحويله إلى فعل ملموس وبدون الرياضيات لا يمكن لعلم من العلوم أيا كان أن يملك الدقة والقدرة على الوصول الى التكامل عبر إدراك التفاضل في أية عملية حياتية أو فعل أنساني تماما كما ان أي فعل إنساني لا يمكن له أن يأخذ مكانته المجتمعية وقدرته على التأثير في الحياة الإنسانية وتجلياتها دون الانشغال الفلسفي بذلك فأمة لا تملك إدارة الكيف فلسفيا ولا إدارة الكم رياضيا يمكن لها أن تركب في قطار الحضارة الإنسانية الفاعلة ولا مكان لها سوى الإمساك بذيل القطار من الخلف لا أكثر.
من جانب آخر فان الفصل بين إدارة الكم والكيف أمر اخرق فلا يجوز لك مثلا الاعتقاد أن بإمكانك استخدام طائرة من صنع أمريكي وهاتف من صنع فرنسي وسيارة من صنع بريطاني وتلبس وتأكل مما ينتجون من سلع ثم تعتقد انك ستبقي على كيفيتك أنت كما أنت فالأمر لا يمكن الاعتماد عليه ذلك أن تعداد الطائرات سيبدو كتعداد الدولارات وتعداد الهواتف لن يبقيها مجرد أرقام فالتعامل مع تكنولوجيا الآخرين سيقودك بالتأكيد إلى الاعتقاد بأنهم اقدر منك على تحقيق احتياجاتك وبالتالي ستجد نفسك معجبا ليس بما تملك من أدوات لهم بل يمن صنعوها وبثقافتهم ومن هنا علينا أن ننتبه جيدا ونحن نصفق للفرق الاسبانية أننا نفعل ذلك ونحن نشاهدها أيضا عبر أدواتهم ونحن نرطن بكلماتهم ليس رغبة أو خطا بل لان وسائل الاتصال التي بين أيدينا لهم قبل غيرهم فأنت اليوم تستخدم جوجل لتقرا دروسك وتعد أكلك وتشتري ملابسك ولكنك لن تجد اسم بلدك هناك لأنهم لا يريدون لها ذلك فهم الأقدر على تقديم المعلومة التي يريدون لها أن تصل إليك ولا بديل لك عن قبولها والتعامل معها على أنها الحقيقة الوحيدة المطلقة فمن إذن سيصنع غدك ويصوغ ثقافتك سوى من يصنع أدواتهما فعلا لا أمنيات ولا قصائد شعر بلهاء
اليوم في القرن الواحد والعشرين نحن نقف على هامش الحضارة الإنسانية البعيد ولا احد يمكنه التشدق بأي تأثير أو فعل عربي حقيقي في مسيرة الحضارة الإنسانية الحديث, ومهما حاولنا الركون إلى الإسلام كغطاء للدور القديم الذي اثر فيه علماء المسلمين بمسيرة البشرية يظل موقفنا ضعيف فنحن نخلط متى نشاء بين العربي والإسلامي ونفصل متى نشاء والحقيقة أن هناك فرق شاسع بين العربي والإسلامي وعلماء المسلمين من غير العرب هم الذين اثروا الثقافة والفكر الإنسانيين بحركة الترجمة والنقل ولهم يعود الفضل فعلا في نقل الفلسفة اليونانية والإغريقية إلى أوروبا.
هذا الدور يندرج ضمن مسار الحضارات القديمة وتأثيرها في مستقبل البشرية ولا احد يستطيع إنكار ذلك فالحضارة لم تبدأ من عند العرب ولم تنتهي إليهم كما لم تفعل ذلك الحضارات الأخرى التي اندثر وجودها وان بقي تأثيرها حي إلى يومنا هذا وقد يبدو ذلك جليا في ما قاله الرئيس رونالد ريجان بتاريخ 17/4/1986 عند إصداره البيان رقم 5461 حيث قال ” منذ بدايات الرياضيات في مصر وبلاد ما بين النهرين, قبل حوالي5000 سنة, كان التقدم في فهم الرياضيات العنصر الرئيسي للتقدم في العلم والتجارة والفنون., وقد خطونا خطوات جبارة منذ نظريات فيثاغوروس حتي نظرية جورج كانتور عن المجموعة, وأصبحت معرفة الرياضيات هي والتفكير العلمي, في عصر الكومبيوتر, ضروريين أكثر من أي وقت مضي لعالمنا ذي الطبيعة التقنية المتزايدة.. وعلي الرغم من أهمية الرياضيات المتزايدة لتقدم اقتصادنا ومجتمعنا, أخذ انتساب الطلبة إلي برامج الرياضيات يتناقص علي جميع المستويات في النظام التربوي الأمريكي, لكن لا غني عن تطبيق الرياضيات في الميادين المختلفة مثل الطب وعلوم الحاسب واستكشاف الفضاء, وفي المهن التي تتطلب المهارات, والأعمال, والدفاع والحكومة, ولكي نساعد في تشجيع دراسة الرياضيات وتطبيقها, من المناسب تذكير جميع الأمريكيين بأهمية هذا الفرع الأساسي من فروع العلم لحياتنا اليومية.. وقد سمي الكونجرس ــ بالقرار رقم261 الذي صدر عنه وعن مجلس الشيوخ ــ الأسبوع من14 إلي20 ابريل1986 الأسبوع القومي للتوعية الرياضية وفوض الرئيس وطلب منه إصدار بيان بهذا الشأن.. بناء علي ذلك أعلن, أنا رونالد ريجان, رئيس الولايات المتحدة الأمريكية, الأسبوع من14 إلي20 ابريل1986 أسبوعا قوميا لمادة الرياضيات, وأحث جميع الأمريكيين علي المشاركة في طقوس ونشاطات ملائمة تبرهن علي أهمية الرياضيات وتعليمها للولايات المتحدة الأمريكية.. ويشهد علي هذا توقيعي علي هذا البيان هذا اليوم السابع عشر من نيسان سنة1986, وسنة استقلال الولايات المتحدة العاشرة والمائتين “.
واضح جدا الأهمية التي توليها القوة الأعظم في العالم لموضوع الرياضيات اليوم وليس ما مضى فما مضى نسب بوضوح لمصر الفراعنة والبابليين قبل فيثاغوروس وكانتور واليوم تعتبر الرياضيات أهم العلوم لدى الدول الصناعية المتقدمة ولا يبدو لذلك نفس الأهمية اليوم عند العرب وفي حياتهم الذين لا زالوا يتمترسون خلف لغة الشعر والرواية والخطابة كأدوات الثقافة الحقيقية التي ينتمون إليها ولم تصبح العلوم التي نقلها إليهم علماء المسلمين مسلمات بالنسبة إليهم وان هي أصبحت كذلك لدى الغرب الذين استفادوا من كل الأفكار والدراسات والأبحاث التي أنجزها علماء العرب والمسلمين في الرياضيات والتطوير الذي أحدثوه في الرياضيات الهندية بدءا من كتابة الأرقام وتطوير دور الصفر ومكانته إلى التفاضل والتكامل وسواهما ولا يكفي أن تكون مؤسسا غائبا لتملك الحق الدائم فيما أسسته إذا كنت مصرا على إدارة الظهر لانجازات الآخرين.
المشكلة لدينا تكمن فيما يلي
نحن نشعر بالفخر والاعتزاز ونكرر دائما أن العالم اخذ عنا كذا وكذا ويذهب البعض منا حد الاعتقاد والترويج لفكرة أن مصدر التطور في أوروبا هي علوم العرب والمسلمين وأيا كانت حقيقة الأمر فان السؤال الأهم هو أين نحن الآن من ذلك, ونحن نرفض على الإطلاق فكرة قبول ما أبدعه الآخرين مع إصرارنا على أننا من قدم لهم ضوء المعرفة ليصلوا إلى ما وصلوا اليه ونصر على التمسمر عند الزمن القديم الذي نعتقد بانتمائنا اليه نظريا في حين نغرق كليا بما أنجزه الغرب من سلع ومنتجات تمارس أقصى أنواع التأثير العملي على حياتنا بدءا من السلع الاستهلاكية التي نمجدها ونستهلكها ونفضلها عن منتجاتنا بما في ذلك منتجات الأعداء كما هو الحال في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال وانتهاء بمكونات الحياة التي باتت أساس عملية الفعل الكامل في حياة العربي كالآلة والسيارة والطائرة والهاتف والتلفاز وما إلى ذلك ويكفي أن نعرف أن عدد محطات التلفزة العربية المملوكة للسعودية حوالي 50 محطة منها حوالي 26 محطة تحمل أسماء أجنبية وحوالي 15 محطة تبث منتجات ثقافية غربية كالأفلام تحديدا وعلى مدى الساعة وما تبقى منها فهي للاغاني والرياضة أو للأخبار والسياسة الموجهة لخدمة أغراض الحكم في السعودية فكيف يمكننا إذن أن نطالب شبابنا الذين نبث لهم 24 ساعة أفلاما باللغة الانجليزية تقدم لهم الحياة الغربية بكل إبداعاتها وتطورها وحيويتها وانفتاحها ونقدم لهم أجهزة حاسوب وهواتف تصلهم في هذا العالم بأسرع من الوصول إلى أبواب بيوتهم بان يتمسكوا بما لدينا ان كان ليدنا شيء حي وملموس نقدمه لهم أصلا.
منتدى الفكر العربي اصدر كتابا بعنوان ” إلى أين يذهب العرب ” ضمنه رؤية 30 مفكرا عربيا أجابوا على عديد التساؤلات وقد حاولت أن أقدم بعضها عن سؤالين فقد أجاب البعض على سؤال عن الفجوة المعرفية العربية وما هو السبيل لسد هذه الفجوة بيننا وبين الدول المتقدمة معرفيا وقد أجابوا بما يلي:
ابتسام الكتبي من الإمارات قالت: ” القراءة كهدف وطني وقومي هي أيضا احد أهم الركائز التي يتعين تعزيزها في الفترة المقبلة ” وهل سيتوقف أصحاب السبق المعرفي عن صناعة الثقافة والقراءة حتى نلحق بهم
احمد إبراهيم الفقيه من ليبيا قال ” نعم التعليم والعلم ولغة العصر هي أعمدة الطريق إلى النهضة ” ألا يدري السيد الفقيه أن لغة العصر هي لغتهم فكيف سنحقق مشروع نهضوي خاص بنا بلغة من نحاول اللحاق بهم إلا إذا كانوا سينتظروننا على ناصية الطريق حتى نصل ثم بماذا سنلحق من نستخدم أدواته نفسه للحاق سوى ان نقدم لها فروض الطاعة والولاء.
جهاد الخازن من لبنان يذهب بنفس الاتجاه وهو التعليم فيقول ” الخطوة الأولى رفع مستوى التعليم ومنه تعليم المعلمين” وفي نهاية إجابته يقول ” اشعر أننا أمام مهمة مستحيلة ” هذا هو رأي جهاد الخازن واستخلاصه أن المهمة التي رآها كحل مستحيلة.
حسن حنفي من مصر كان واضح الصوت وهو يتحدث عن غياب الفكر النقدي ويتحدث عن بؤس الفكر النسخي الثابت عند إقرار ما مضى من عقلية الكلام والبحث فيه ويقول بأسى ” غاب الفكر النقدي الذي يمكنه إعادة بناء النسق المعرفي القديم ويجعله أكثر حداثة ” ولماذا نسعى لإنعاش الميت ما دامت الحضارة الإنسانية التي نقر أننا من صاغ أساستها قد وصلت إلى القمة ولم لا نمسك بما وصلت اليه الأمم ونتابع من هناك السنا مشاركين بما وصلوا اليه ومن حقنا أن نقطف ثمار ما شاركنا به وبأساساته أصلا ثم نواصل نحن تطوير ذلك ونعود لمكانتنا لنكمل من حيث انتهى غيرنا.
السؤال الثاني كان هل نحن بحاجة إلى مشروع عربي كبديل عن كل المشاريع الإقليمية أو الدولية وما هي الأسس التي سنعتمد عليها لذلك وجاءت الإجابات على النحو التالي:
السيد ياسين من مصر يقول ” ليس هناك – في تقديرنا – مجال لمشروع عربي يكون بديلا عن مشاريع إقليمية ودولية ” ثم يتابع ” المطلوب صياغة مشروع عربي عصري يفهم قادته لغة العصر ولديهم القدرة على فك شفرات التقدم الذي حققته بلاد غربية وآسيوية عدة ” ومع انه يفسر ذلك بشكل جلي عن ضرورة الدمج بين المشروع الخاص والعام إلا انه لم يجرؤ على القول بوحدة الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية وانه ليس من العيب ان نستعير لنا ما وصل له غيرنا وندجنه إن أمكننا ذلك دون تناقض.
صالح المانع من السعودية عاد بنا إلى الوراء وهو يقول ” كنا في الماضي ننتقد الدولة القطرية ونرى أن الدولة القومية هي الحل الأمثل لمشكلات المجتمعات العربية ولكن بعد هذه الحروب الطاحنة والثورات المستجدة بات بقاء الدولة القطرية الواحدة متماسكة هدفا في حد ذاته” يريد العودة بنا إلى القبائل من جديد فإذا كانت أوروبا بأكثر من لغة وأكثر من قومية تتوحد فان السيد المانع يريد مشروعا عربيا جديدا بإعادة تقسيم المقسم من جديد.
عبد الحسين شعبان يخاف المانع الرأي ويسعى للوحدة عبر عقد اجتماعي عربي جديد وعبر اتحاد فيدرالي كما هو رأي العديدين غيره وسؤالي ببساطة إذا كان مفكرو الأمة كما قدمهم الكتاب لم يجدوا جوابا مشتركا ولا حتى مفردات مشتركة فإلى أين يمكننا الوصول بحالة التيه وانعدام الوزن هذه.