أحلام “كوروساوا”(1990)




*مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )
أسلوبية “مسرح الكابوكي” في عروض سينمائية مدهشة تشمل: احتفال الثعالب وبستان الخوخ ولوحات فان جوخ “الخلابة” والتسلق الجليدي والعسكرة والإشعاع النووي وطواحين المياه.
الحلم الأول واسمه “الشمس تشرق من خلال السحب”، يبدأ الحلم بوجود طفل صغير أمام منزله مع بداية عاصفة مطرية، وتحذره أمه المنشغلة بتحريك الأشياء من الخروج، ولكنه يصر ويخرج ليستعرض احتفال الثعالب في الغابة بموسم التزاوج، ولكنها لا تريد للفتى الصغير أن يراها، وعندما يختبىء ويشاهدها خلسة من وراء أشجار حمراء ضخمة، عليه أن يطلب الغفران أو يقتل نفسه بسيف صغير خاص…يسجل “كوروساوا” هنا المشاهد بلقطات طويلة ويشعرنا بالمطر والغابة والاحتفال، مسجلا غموض الطبيعة الساحر مع إحساس غامض بالأرواح المحيطة.
الحلم الثاني وهو بعنوان “بستان الخوخ”، يستعرض بجمالية فائقة أرواح الأشجار الغاضبة وتزهيرها البراق الربيعي وبدت وكأنها تلوم الصبي لحياديته تجاه جمالها الصارخ الطبيعي،وتضمن المشهد تشكيلات فولكلورية تاريخية زاهية لقدامى أباطرة اليابان…
الحلم الثالث يتحدث عن عاصفة ثلجية عاتية تواجه أربعة متسلقين يائسين، حيث تشتد ويدب الخوف واليأس في نفوسهم، حتى يسود الانجماد والصقيع، ثم تظهر فتاة كملاك أبيض وتبشرهم بقرب انقشاع العاصفة وبجو دافىء قادم، ثم تطير وتختفي كشبح بعد أن تحوم فوق رئيسهم لتشجعه على المقاومة، ويدفعه ذلك لكي يوقظهم من الاستسلام والنوم والانجماد القاتل، ليشاهدا معجزة قرب مخيمهم الذي لا يبعد إلا خطوات عن موقعهم، ليدب الأمل في نفوسهم.
الحلم الرابع بعنوان “النفق”، يتحدث عن جنرال تائه يدخل نفقا مظلما ليواجه بكلب شرس أسود مدجج بالقنابل حول جسمه، ثم يفاجأ بظهور أشباح أعضاء كتيبته العساكر القتلى واحدا تلو الآخر، وكأنهم عادوا من الموت، يكالبون بالغفران لأنهم أبيدو في المعركة عن بكرة أبيهم، ويخطب فيهم مشيدا ببطولاتهم وتضحيتهم ومتحسرا على خسرانهم لحياتهم الثمينة مقابل “العسكرة الخائبة”، ثم يطلب منهم العودة للرقاد الأبدي في مارش عسكري حزين.
الحلم الخامس “الغربان” يستعرض الرسومات الخلابة الزاهية للفنان الهولندي الشهير “فان كوخ”، ومن ضمنها لوحة أخيرة بهذا العنوان، وقد مثل الدور بشغف واستحواذ المخرج الأمريكي الشهير “مارتن سكورسيزي”، ونرى الراوي الياباني هادىء السلوك يتبعه لاهثا وهو يرسم بسرعة الحقول والمشاهد الطبيعية وكأنه يسابق الزمن ويقاوم الموت الأبدي القادم مبررا بعبارات غامضة سبب إقدامه على قطع أذنه في نوبة جنون إبداعي، وبدا “الراوي” وكأنه يسير على لوحات الرسام الشهير فائقة الجمال وخلابة الألوان .
الحلم السادس يتحدث عن انفجارات نووية مفاجئة تضرب جبل “فوجي” الشهير، ونعلم من المسؤول البيروقراطي المتحذلق الذي يغلبه الشعور الطاغي بالذنب، أن ستة مفاعلات نووية قد انفجرت بدون إنذار مسبق، ونرى جموع الناس يهرعون بهلع للنجاة بأنفسهم، وتركز المشاهد على أم مرعوبة مع طفلين صغيرين، ثم نرى المسؤول يقدم على الانتحار بقذف نفسه في المحيط، بعد أن يتحدث بالتفصيل عن تداعيات ومخاطر الإشعاعات النووية (بعد حوالي أربع سنوات من كارثة تشيرنوبل الشهيرة التي هزت الثقة بسلامة المفاعلات النووية)، وهنا لا بد أن نتذكر بألم أيضا كارثة مفاعل “فوكوشيما” في العام 2010.
الحلم السابع وعنوانه “الشيطان الباكي”، ويتعرض لنفس ثيمة التأثير الإشعاعي القاتل، حيث يؤدي ذلك لتشوه الطبيعة وتضخم الزهورثم لتحول الناجين لشياطين مرعبة بقرون، تقضي حياتها وهي تتعذب وتعاني وتأكل بعضها بعضا في بؤس أبدي خالد.
الحلم الثامن الأخير وهو بعنوان” قرية طواحين الماء”، ويحوي بصيص أمل وانفراج ويستعرض الحياة الوديعة الهانئة لقرية ريفية تحوي عددا كبيرا من “طواحين الماء”، وينقلنا للأجواء الزراعية الخلابة والزهور البديعة، حيث نسمع عجوزا تجاوز المئة بقليل وهو يتحدث للراوي عن روعة الحياة الطبيعية البسيطة بعيدا عن صخب المدن وتلوثها، ونراه منغمسا بإجراء الصيانة الوقائية لطاحونة مائية متهالكة، ثم يستعرض طبيعة السكان البسطاء الطيبين الذين يحتفلون مع موسيقى معبرة بجنازة امرأة عجوز توفيت في الـ88 من عمرها، ونسمعه يعتذر ليواكب الاحتفال الطريف، وبأسلوب “حمّال أوجه” يسخر أخيرا بدعابة من موت المرأة العجوز، شامتا بها عندما يذكر أنها حطمت في السابق قلبه عندما كان شابا عندما فضلت عليه شابا آخر، ولكنه يؤكد لصديقنا الراوي المندهش بأنهم بالمقابل يحزنون لوفاة الشباب والأطفال، وهو ربما يشير مجازا هنا أيضا “لظاهرة الشيخوخة المستفحلة” في المجتمع الياباني وتداعياتها المستقبلية الخطيرة.
استخدم كوروساوا الأحلام هنا للتعبير الخلاق عن تداعيات طفولته المنقضية، وارتباطه الحميم بالطبيعة اليابانية الساحرة، كما حاول بمجاز ذكي فض مكنونات نفسه وتوصيل “الرسائل التحذيرية”، وعبر انطباعاته المتراكمة عبر السنين، فتحدث عن تداعيات الكارثة النووية المرعبة وعن مخاطر المفاعلات النووية، وكأنه استبصر بحكمة كارثة “فوكوشيما” قبل حوالي عقدين من وقوعها…ثم تطرق للعسكرة التي جلبت الكوارث للأمة اليابانية، ولم ينسَ سحر رسومات “فان جوخ” وأنهى شريطه الفريد هذا بالحديث عن روعة العودة للطبيعة وبساطة العيش.
الكثير من اللقطات الشيقة تذكرنا بفن المسرح الياباني البطيء الراقص “كابوكي” وتشكيلاته اللونية الإيقاعية الأخاذة، متضمنا تفاصيل الحركة والمكياج ونظرات العيون والإيقاع الحركي الراقص البطىء والاحتفالي الفريد، أخيرا فقد قدم لنا هذا المخرج العبقري في اواخرأيامه فنا سينمائيا استحواذيا، جامعا البساطة بالتعقيد وطارحا وجهات نظره “الاستبصارية” المختلفة.
___
**عرضته لجنة السينما بمؤسسة شومان بتاريخ 12/4/2016

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *