قرابين أحلام عذرية


* الدير عبد الرزاق

( ثقافات ) 

صنع مركبا من ورق بحلم صغير، رعاه طفلا، ثم نما، وعلى ضفة النهر كبر… كان مركبا من ورق فتلاشى وغرق … كبر{نصر}ومات حلمه الورقي كما تموت أوراق الزهور…
تيقن منطلقا من خلفية فلسفة الواقع أن الخنوع ريح جبارة تسرق صبا الأحلام وتعصف بها إلى جزيرة المجهول…
حملق في العالم من حوله،وقَبِِل تحدي الريح…
فجمع أخشابا وصنع مجدافا للمغامرة، و الخوض في مواجهة عالم يسكنه لا إنسان،عالم يسرق كل حلم أينع في مسودة ذاكرة{نصر}…
لمح الضفة الأخرى،وأنوارها الملتهبة،وخيول غجرية تركض فوق الشروق، لا تعرف للغروب سبيلا…
ثم استدار وجهه،وقد أحس بمغناطيس يجذبه…
كانت الجبال تتماوج،والدموع أغرقت أخاديدها،تنادي:
عد يا وريدي…
عد يا شرياني…
أجهش “نصر” بالبكاء،فخر ساجدا…
كان المشهد أشبه بالحلم:
تماهت ألوان قوس قزح…
التحم الدم بالدمع…
عانق الشروق الغروب…
ذاب الصراخ في الصمت…
انصهر الأمل في الألم…
حلق النسر في منخفضات اليأس…
مشهد فظيع … ما رسم في لوحة فنان … و لا دون في قصيدة شاعر…
لم يطق {نصر} المشهد،حيث خفق له قلبه…
قصد البحر،يحمل قلبا من جمر،غير مبال بمخاطره…
في هذه اللحظة أحست الجبال بالإحباط و الخيبة… عادت إلى بيوتها كما تعود أم دفنت ابنها الصغير…
توجه {نصر}إلى المجداف،طرق آخر مسمار…
و طارق ينادي من الضفة الأخرى:
البحر أمامك،و أمك وراءك…
عد يا{ نصر}إلى أهلك…
عد يا {نصر}إلى وطنك…
لكن{نصر}كان مصرا على الرحيل،ردد وهو يشعل سيجارة:
كل الوجوه التي قابلتها لم تكن سوى تماثيل شاخصة، تنتظر نبيا ثانيا ليهدمها،لكن زمن النبوة انتهى…
تناول السيجارة بين شفتيه السقيمتين…
رجله اليمنى فوق المجداف،و رجله اليسرى تبحث لها عن مكان في الأرض…
تأمل البحر الملون بالأزرق، و أمواجه المتصارعة…
ثم ركب حلما من دخان…
سها ذهنه…
حلقت روحه إلى عالم المثل،العالم السرمدي،حيث السعادة…حيث الحب…حيث كل الأشياء على حقيقتها في صورة أصلية…فتساءل عن غياب مرايا بشرية التي هي في الأصل صورة عكسية للوجود…
ثم عاد إلى الأرض،العالم الفاني …الذي تخيم عليه لعنة أوديب… 
يتصور نفسه حاكما حالما عادلا…
فشاعرا،قافيته الربيع،بحره الإنسان…
ثم فنانا تشكيليا، يمسك الريشة بيده اليسرى…يرسم يما هادئا…يلونه بالأحمر،وطفلا بأجنحة منكسرة يطير فوقه …و شمس العشي تستعد للرحيل… وفوق العباب مركبا من ورق، تجره ريح جبارة إلى الأمام…
وسط هذه الهواجس استيقظ {نصر}من حلم يقظته برعب كاد يخطف روحه…
انسابت ابتسامة شاحبة من شفتيه،هدأت روعه…
أخده الحنين إلى أمه التي قابلته دوما بالجفاء…
أعطته الشمس ظلا،والتراب صدرا…
حرمته من الحليب قبل أن يولد في زمن تتكفل الصيدلية و المتجر بالرضاعة…
أراد العودة ،لكنه تذكر أنه حرم من أكل السمك…
فلماذا يحرم السمك من لحمه؟
ليبادر هو الآن، ويقدم جسده النحيل قربانا، لا للنيل ولكن للبوغاز…
اختار موت اللحظة،على الموت البطيء،الذي يسري في عروقه الباردة،
في كل لحظة ينحاز فيها لأنين الوطن…
تذكر الشمس عند العاشق الولهان…حين تصارع الغروب…
والفجر… حين يِِؤنث…
والنمرود الجبار…حين صارع الموت…
حين وحين…قد حان الرحيل…
في قرارة نفس{نصر}ومض من زمن مضى…ذكريات الطفولة البريئة… 
حين كان يجري وراء مركب الورق،حين كان يحزن إذا ما هو غرق…
كل أحلامه جفت،ولم تعد سوى عزف بلا أوتار…
حتى محبوبته التي ظلت رهينة رفوف روحه حاول نسيانها حتى اللحظة…لكن رسومها لم تفارقه…
داس على سيجارته،و أخرج هاتفا نقالا ـ الشيء الوحيد الذي يملكه ـ…
أرسل بلاغا رقميا بلغة العصر: 
000000000
إلى كل الصحف…و كل القنوات…وكل السفارات…
كلها يعرفها، كما يعرف كل سراب منتصب في الشارع…
راسل جميع الأرقام، إلا رقما ظل يشاكسه طيلة حياته حتى اللحظة،كان يخاف دوما حتى من ذكر هذا الرقم…
سأل نفسه: يا{نصر}لماذا لا تراسل هذا الرقم الآن،قبل رحيلك؟…
ركب الرقم،وفرائصه ترتجف، ـ كان الرقم غريبا خارج الأرقام ـ…
ضغط على زر إرسال … و روحه كادت تفارق جسده…
فجأة وبينما هو يحاول استجماع قواه،انشطرت السماء إلى شطرين…
خيم غمام أسودا على المكان،ارتبك من شدة الهلع،ولم يعد يعرف ما الذي يحدث…
وبينما هو منغمس في إيجاد تفسير للمشهد،إذا بالقمر يسقط من السماء مثل الوليد من رحم أمه… ليحطم المجداف أشلاء…
ظل{نصر}يرقب المشهد،والدهشة بادية على محياه،كأن الدم تجمد في شريانه…
المجداف آخر أحلامه…. ها هو ذا يتحطم أمام عينيه…
بدأ بالأنين كأنه {نصر} الطفل…
لكن الشمس لم تصمد أمام الذي يجري ل{نصر}،فأخذها حس إنساني…
مدت الفجر له يدا…
و الأمل جواز السفر…
وفي هذه اللحظة …
لأول مرة يحتضن {نصر}الحلم ،ليس هدية من بني البشر،ولكن من الشمس…
ومن جديد يعيش{نصر}الشاب… من أجل {نصر}الطفل… 
________
* قاص من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *