سمفونية أحلام مرهقة


الدير عبد الرزاق*

( ثقافات )

جف قلم “نصر”…و ابتلع اليأس أحلامه اليابسة…و لم يعد بمقدوره إضاعة زمن آخر خارج زمنه الواقعي في كتب و نظريات أراد أن يغير بها العالم… لكن العالم هو الذي غيره… تساءل بحيرة وجودية و هو يحمل قلبا من جمر:إن لم أكن أنا كما أنا الآن، هل كان العالم بدوني أنا…نعم أنا “نصر”…أنا من اكتشف القمر وحتى الضوء و الكهرباء و المذياع و التلفاز … وحتى الشموع…لكن بعد أن اكتشفوها قبلي… إكتشفتها عن طريق الكتب… تبا… هل كان سيتغير العالم ؟…نعم بدوني العالم سيتغير…
سيتغير بدوني العالم … نعم سيتغير …
مسكين “نصر”اجتاحته رياح تشرين الحزين ، تركته ورقة يابسة أرهقتها السنين…ها هو في الخمسين من عمره… وليس له أبناء و لا حتى زوجة آدمية تشاركه تفاصيل الحياة البسيطة… و إنما اختار الفلسفة زوجة شرعية و الحروف أبناء بارين،والأدب معشوقة جميلة يتسلل إليها عندما يحس برغبة في التملص من الفكر فيضاجعها بحميمية وجودية …
جلس وحيدا القرفصاء… يتأمل الكتب التي ألفها بنكران للذات… و الدواوين التي كتبها بخيوط عمره … والقصص التي نسجها بدم روحه…
قهقه قهقهة كادت تخطف روحه من جسمه النحيف… ثم مسك قصة بعنوان”الاختيار الأخير”… بدأ يتصفحها ناقما على السنين التي أخذت من فكره و جسده الكثير، مناجيا نفسه:تبا لمن أدمن على الحرف… تبا لمن اعتقد في الزمن… تبا…
قام من مكانه هائجا… فجمع إبداعاته الفكرية التي أخذت منه ثلاثين سنة… و أضرم فيها النار… بدأ ينظر إليها مذعورا وهي تحترق… كان يحس في تلك اللحظة أن وجوده انتهى… صاح بصوت عال كأنه يجسد دورا تراجيديا في مسرحية:حرقت إبداعتي… حرقت فكري… حرقت وجودي … هل سيعود الحرف و يستفزني ؟… لا…لا…لا… ثم خرج من كوخه القصديري في صباح خريفي،تتناثر فيه كل الأشياء…


كان حلمه و هو صغيرا أن يصبح فيلسوفا و أدبيا ذائعا صيته في كل بقاع العالم…لكنه سكر بنشوة الأحلام و الخيال،ولم يستيقظ حتى الخمسين من عمره…
توجه إلى نادي للألعاب… وفي المدخل استوقفه رجلا ضخم الجثة تنبعث شرارة الحقد من عينيه الواسعتين…فسأله:ماذا تريد يا هذا؟ فصاح “نصر” واثقا من نفسه : أريد أن أصبح فيلسوفا و أديبا مشهورا في كل العالم… نعم في كل العالم… نعم في كل التاريخ الإنساني… بدأ الرجل يضحك حتى كادت تظهر معدته… ثم قال ل”نصر”: يا أيها الرجل العظيم ألم تسمع:”بالأحلام الجميلة تسقط أوراق التاريخ”…يا عماه ألم تسمع” لي تلف يشد الأرض”…نحن هنا في هذا النادي،لا نمارس الفلسفة…قاطعه”نصر”:وماذا تمارسون إذن؟… فقال الرجل: نمارس لعبة الكراسي الثابتة… هل تجيد لعبها؟… أشار “نصر” برأسه:لا… فقال الرجل:إذن لماذا أنت متواجد في هذا المكان؟… إن لم تذهب ناديت عليهم من الداخل ليكسروا عظامك… و يذوبوا”راسك القاسح” فهم يكرهون من يشمون فيه رائحة الفلسفة… هيه اذهب…
أحس”نصر”بالخيبة… وتجرع في هذه اللحظة مرارة السنين التي لا ترحم… تذكر وهو يجر تلابيب الهزيمة أستاذ مادة الاجتماعيات في المرحلة الثانوية حين قال له: دع عنك كتابة الخزعبلات، و ادرس هضاب وجبال لعبة الكراسي…
غادر”نصر” النادي متجها إلى مقهى الحي … بحث في جيبه عن نقود… لكن لم يجد درهما واحدا حتى… تأسف لحاله… و عاتب روحه التي حلقت به إلى عالم الأحلام الوردية… بنت له قصورا من الرمال على شاطئ المثل، و شيدت له جسورا تمتد في عالم خارج كوكبه الذي يتشبت بمجموعة شمسية تدور داخل الفوضى الخلاقة … ها هي الأحلام قد تلاشت أمام جبروت لا أحلام … و هاهي القصور قد هدمتها مياه لا بحور…
لم يقدر “نصر”على مواجهة الحياة و واقعها، فاكتفى بدمعة روحية تستمد طاقتها من فوهة بركان يطعمه لا إنسان على رسوم و أطلال ترصع ذاكرة أرهقتها نكبات لم تنضجها نار الأمنيات التي أقسمت أن لا تنتمي لواقع “نصر”…جلس كالصياد على حافة الطريق ينتظر مرور اليوم… تمنى الرجوع ثلاثين عاما إلى الخلف… لكن أمانيه في مهب الريح… كان في شبابه يطمح لمعرفة كل الأشياء،لكن أخذته السنون… وبقي يلهث وراء المعرفة حتى الخمسين من عمره…
لكن أدرك أنه لم يعرف شيئا ، ولم يبدع شيئا،مادام جيبه فارغا… وضع راحته على خده… أخذ يتأمل المارة… يلتقط تفاصيل الحياة البسيطة التي عجز عن الإندماج فيها…
________
* قاص من المغرب

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *