*رسول محمد رسول
مضى على كتابة فريدريك نيتشه لدراسته “شوبنهاور مربيا” نحو قرن ونصف القرن من الزمان حتى وجدت هذا العام طريقها إلى القارئ العربي عبر ترجمة نهض بها الشاعر العراقي، المقيم بالدنمارك قحطان جاسم، عن الإنكليزية إلى العربية مرورا بالترجمة الدنماركية وليس بعيدا عن لغة النص الألمانية.
وما هو معروف عن نيتشه أنه كتب دراسته “شوبنهاور مربيا” عام 1873، ونشرها في 15 أكتوبر 1874 ضمن الجزء الثالث من كتابه “تأملات خارج الأوان” (ج 3) الذي نشره سنة 1887. وابتداء من عام 1983 أخذ القارئ الأنكلوسكسوني يقرأ متن هذا النص ضمن قراءته لكتاب نيتشه “تأملات خارج الأوان” (ج 3)، الذي صدر في طبعة ثانية عام 1997، وفي غضون عقد من الزمان (حتى عام 2007) كانت الطبعة الحادية عشرة قد صدرت، وهو مؤشر على أهمية هذا الكتاب، الذي وصفه نيتشه نفسه بأنه “صغير الحجم”.
تجربة نيتشه الفلسفية
صدرت ترجمة كتاب “شوبنهاور مربيا”، بنشر مشترك عن منشورات ضفاف في بيروت، ومنشورات الاختلاف بالجزائر، ودار أوما في بغداد، ودار الأمان في تونس. وكان نيتشه قد أبدى في عنوانه “شوبنهاور مربيا” إيحاء دلاليا يفهم القارئ منه أنه فقط سيتحدث عن مواطنه الألماني آرثر شوبنهاور بوصفه معلما أو مربيا له، لكن قراءة متن النص ستجعلنا نغادر هذا التفسير المبسط، فمن المؤكد ظهور شوبنهاور فيه كمعلم لنيتشه الذي تأثر به أيما تأثر، إلاّ أن تجربة القارئ للنص تسوغ له أن يرى نفسه بإزاء تجربة فلسفية خاصة بنيتشه نفسه والذي بسطها في ثمانية فصول.
يقدم قحطان جاسم ترجمته هذه بمقدمة يوضح فيها ولادة هذا النص، ولادة علاقة التأثر والتأثير بين فيلسوفين، تلك العلاقة التي وصفها رودولف شتاينر بقوله إن كتاب “أفكار في غير الأوان بيّن مدى التأثير الذي أحدثته في نيتشه فلسفة شوبنهاور، تلك الفلسفة المتناقضة جذريا مع دوافعه العميقة”.
ومهما كانت طبيعة تلك الدوافع، فإن نيتشه كشف عن طرائق تواصله مع أسلافه الفلاسفة. فهذا الكتاب، وكما يقول المترجم، “يعرض لأفكار وتصوّرات نيتشه عن دور الفيلسوف وأهميته في المجتمع، والمعاناة التي تعرّض لها من محيطه بسبب آرائه النقدية وتصوّراته المضادّة للمعتاد والمتداول من الأفكار والعادات والسلوك، ثم تأكيده المتكرر على أهمية إفساح فرصة أكبر أمام الفيلسوف والعالم، وألا يتحولا إلى أدوات في خدمة الدولة، بل ويطالب بقوة بحيادية نشاطاتهما، والكف عن أن تكون المؤسسات التعليمية في خدمة أهداف الدولة ومصالح الرأسماليين”.
وكان نص “شوبنهاور مربيا”، وفي طبعته الألمانية، قد احتل الصفحات من 287 إلى 364 في متن كتاب “تأمُّلات خارج الأوان” (ج 3)، وهو كتاب يتضمّن أربعة فصول، ثلاثة منها لم تترجم إلى العربية حتى الآن أقصد: الفصل الأول “ديفيد شتراوس”، والفصل الثاني “استعمالات وأضرار التأريخ”، والفصل الرابع “ريتشارد فاغنر في بايروث”. أما الفصل الثالث “شوبنهاور مربيا”، فهو الوحيد الذي أخذ طريقه إلى العربية هذا العام.
درس فلسفي
يبدو هذا الكتاب درسا فلسفيا في القراءة، نعم كان نيتشه قد عثر على نص كتاب شوبنهاور “العالم إرادة وتمثلا” بمحض الصدفة لدى بائع كتب، لكن تلك “المناسبة الوجودية” هي نفسها وجدت في ملاقاة نيتشه لشوبنهاور فرصة ذهبية لبناء قراءة فريدة من نوعها، وهي القراءة التي فتحت لنيتشه آفاقا للتعبير عن رؤيته الخاصة بالفيلسوف والمفكر والفنان في تجربته الذاتية، وكذلك الموضوعية.
نظر نيتشه إلى ذاته فوجدها ضائعة في أتون اليومي العابر، هذا القلق الوجودي بدا عبئا ثقيلا عليه. كان يريد لذاته أن تستقر عند موئل ما حتى وجد ذلك في قراءته لشوبنهاور، هذا الفيلسوف الذي وضع حدا “لتجوّل المرء كما في سحابة مظلمة”، وذلك ما يدعو إلى تذكّر “المرء مربيه ومعلمه”، وهو ما أقبل عليه نيتشه نفسه عندما راح يتذكّر، كما يقول هو نفسه “المعلم الوحيد ورجل المهمات الذي يمكنني التفاخر به: آرثور شوبنهاور”.
إن حديث نيتشه عن معلمه شوبنهاور ليس ذلك الحديث التقليدي كحديث ابن أبي أصيبعة في “طبقات الأطباء” عن أسلافه العلماء والحكماء، عن سيرتهم في ما كتبوا وأنشأوا من رسائل وملخصات، إنما هو حديث الذات، ذات نيتشه الفيلسوف، عن غيرية فلسفية مثلها شوبنهاور بوصفه فيلسوفا. ولذلك كانت القراءة بلاغا عن الذات النيتشوية وهي تلاقي الذات الشوبنهاورية.
إن هذا التلاقي الذي طالما حلم به مارتن هيدغر وهو يقرأ نيتشه، اكتسب فرادة الملاقاة، فرادة اللقاء بين القارئ والمقروء، وهي فرادة تاريخانية كونها تريد “إيقاظ العصر إلى حياة جديدة”، إيقاظ الزمان من سباته الذي له بوصفه حجبا.
وهكذا نجد في قراءة نيتشه لشوبنهاور أنها أيقظت عصر شوبنهاور من سباته، وهي ذاتها أيقظت عصر نيتشه من سباته أيضا، فكان الحديث عن شوبنهاور يتخذ طابع استذكار فرادة شوبنهاور عبر عصره، وفي الوقت نفسه استذكار نيتشه لذاته ووجوده عبر عصره الذي يعيش فيه، فالفيلسوف لا يجب النظر إليه كذات معرفية محضة منغلقة على كينونة العلم كعلم، بل كذات مجتمعية تاريخانية تنتج اللحظة الزمانية، ولذلك قال نيتش “على الفيلسوف في ألمانيا أن ينسى أكثر فأكثر كيف يكون الإنسان علما خالصا”.
في كل فصول هذا الكتاب، كان نيتشه يستطلع سمات شوبنهاور الشخص، وهي السمات التي كانت تتبدى في كتاباته، لكن نيتشه أيضا بدا مستطلعا لحالة الفيلسوف في زمانه، مستطلعا لحال علاقة الفلاسفة المزيفين بالدولة التي تخاف من العمق الفلسفي لأنه يبدد كيانها في نهاية المطاف؛ ذلك أن “الفلسفة تمنح البشرية ملاذا لا يمكن للطاغية
اختراقه، تمنحهم كهفا داخليا، تمنحهم متاهة القلب، وهذا يغيض المستبدين”، وبالتالي فإن الدولة هي “أبدا مهتمة بالحقيقة ذاتها، لكن بالحقيقة النافعة لها فقط، أو بصورة أدق، إنها تهتم بكل شيء ينفعها”.
إن ترجمة نص “شوبنهاور مربيا” إلى العربية، وبالحرفية المعرفية والجمالية التي أبداها قحطان جاسم، ستضع هذا النص النيتشوي أمام القارئ العربي الذي غابت عنه بدايات نيتشه، غابت عنه جذور أفكاره التي له، بل غابت موجّهاته الأولى، نيتشه فقيه اللغة الذي تواجد في شرفة المعرفة الفلسفية ليطل منها على العالم من حوله في حواره الخلاق مع مفكري وفلاسفة وفناني عصره الذي عاشه بكل ما فيه من تحولات ومنعطفات.
___
*العرب