بوابات فاس*


مرزوق الحلبي*


خاص ( ثقافات )
في البوابة الثانية:

رغيفُ خبز حاف
يتقاسم ثلاثة أطفال
والرابع احتمال.
أكثرهم سمرة وصل للتوّ من قسوة طنجة.
أكبرهم قذفته حروب الردّة في لبنان.
ثالثهم مرّ في كل المدن العربية
دون استثناء.
يسكنه حنين موروث.
والرابع قد يأتي من أي مكان عربي،
والرغيف هو الرغيف، يُخبز كي يؤكل
غير آبه بالتفاصيل.
في البوابة الثالثة:
أكثر مِن مُخبِر يرصد الأفكار.
واحدهم يُحصي ما يصدر عن حلقات الفكر.
يحمل شريط تسجيل أو عدسة صغيرة مثل زرّ القميص،
ترى ولا تُرى.
سحنته عادية.
وجه رديفه المكلّف بشؤون الجرائد لا معنى له
مثل عُدّته الباهتة، مقصّ ودفتر صغير
يسجّل فيه الأسماء الصريحة والحركية.
ثالثهم معنيّ بالأمن العام
يتابع الأطياف بهيئة المُحكِم السيطرة
تردّ الأطياف بسخرية
تمطّ لسانها
تنفذ تباعا من كوّة في أعلى السور
وهو على حاله يُحكم السيطرة.
في البوابة الرابعة:
مجموعة نسوة يسرن على عجل.
سوادهن كثيف، يُشمّ عن بُعد.
يدخلن المدينة بأقدامهن،
بقلوبهن المفعمة.
في كل خطوة أمنية، وخلف كل أمنية خيبة، 
تحجبها ضحكات يلتقطنها عن الدرب.
يجمعن ما يُصادفن ويتركن خلفهن
خيطا من كلام.
أمامهن موصد الأبواب
بفتاوٍى من كل مذهب، تارة
وتارة بالحجاب. 
مُنحوا كل السواد الذي في فاس
وفقدن النظر.
في البوابة الخامسة:
شيخ ومريدون دان الطريق لهم.
تنحى المارّة التصاقا بالجدار.
مرّت الجماعة قابضة على جمرة أو مصير.
تحت العباءات أسرار
وفي الجوّ ترقّب.
شحنة المُطلق عقدت الألسن 
وعقلت الخطى.
انثنت من حدة المزاج خطوط النظر.
حلّ الليل قبل موعده .
وكان قاتما فوق العادة
لا تقطعه سوى تمتمات وبريق الخناجر
وخبر سيء في صحف الصباح.
في البوابة السادسة:
لباسهم كان مغايرا وقليلا سحناتهم
حاصرتهم النظرات والمشاعر الباطنية.
ساروا في الهواء رويدا فراشات ربيعية
يُتقنون اللفظ ومخارج الأحرف وصدى الأصوات.
والنظرات هي النظرات
تشدّد الحصار مع كل خطوة،
تكثّف الإقصاء.
يحضرون السوق 
يعيشون أجواءه كالآخرين
يدفعون بالعملة ذاتها.
يخطفون الأقمشة المعروضة ذاتها
ويُغرمون بالألوان
يخوضون عرس العيش والملح
والنظرات هي النظرات
تشدّد الحصار مع كل خطوة
وتكثّف الإقصاء.
في البوابة السابعة:
حظر التجوّل كان شاملا
وانتشار الحرس وفق الخطّة.
أطلّت وجوه بعضهم خلف الزوايا وفي الشرفات.
سبقهم ألف متعبٍ قنوع.
لعقوا الغبار عن بلاط الطريق إجلالا للموكبُ القادم.
كانت عمائمهم بيض وقلوبهم داكنة.
بعضهم دلّت ربطات العنق من أين أتوا وليس إلى أين هم ذاهبون.
حتى كبير الحرس لا يعرف.
هم الحرّاس آخر من يعلم 
وتظل ابتساماتهم عالقة طويلا طويلا،
بعد غياب الموكب في الدهاليز.
في البوابة الثامنة:
أطفال لا علاقة بين وجوههم وبين أعمارهم.
مرتاحون في أحضان أمهاتهم
وأمهاتهم مشغولات.
يشحدن الحليب، وكل ما زاد عنه مستحبّ،
عطف المارة أو كلمة طيبة.
وأكثر ما يأتيهن النظرات
وجوههن رضية ضمنت يومها.
وكل ما هو آت رهينة الطقس العام ومزاج الذين في السرايا.
ما من أم تجرؤ على إعلام طفلها بالحقيقة
لئلا ينهض من حضنها شاهرا قلبه.
في البوابة التاسعة:
بقايا شعار كتبه الثوار
يوم كانت الثورة على ودّ مع أبنائها.
الكلمة الأخيرة فيه كتبت بالأحمر
شيء ما يتّصل بالحرية أو ما شابهها.
طريقة الكتابة كانت غريبة.
قالوا: زين الشباب دافع عن الشرق في مغربه.
فاجأه رصاص كثيف من كمين نصبه الأخوة
فانتشر دمه الذي من دمهم.
تسرّب في عروق السور أسطورةً 
وسجّلت بغير أسم .
في البوابة الأولى:
ضاع المفتاح في ثنايا الوقت الضائع منا
وسادت الظلمة القاسية .
فلم يدخلها أحد ولم يخرج منها أحد!
_______________
*مدينة فاس، تلك المدينة المسوّرة المبوّبة تختزل الحياة العربية. هذا ما رأيته منها بعيني روحي.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *