*إيتل عدنان/ترجمة: أمل ديبو
كتبت الشاعرة والفنانة إيتل عدنان هذه القطعة الأدبية في ملحق الـ «أوريان» الفرنسية سنة 1968! نشرت القصّة في كتاب بعنوان «سيّد الكسوف» الذي يصدر قريباً بالعربيّة في بيروت بترجمة تحمل توقيع أمل ديبو.
_______
كان الوقت منتصف الليل ومن خلال الأغصان كان القمر يلتمع كسيف صلاح الدين المعقوف في سماء شاحبة وشفافة كالزجاج السوري… ولكن مع القمر تصاعدت رائحة، كريهة ومقلقة.
جارياً البقّال أتى ليسألني إذا كان فأر ميت في أي مكان تفحصنا معاً كل البيت. بالحقيقة كان الحمام غير مرتب بالتّمام، وبعض الماء كان يتسرّب… ولكن كان هذا كلّ شيء.
أبو أحمد خرج، ثم عاد مبدياً قلقه. القمر الجديد على حدّ علمي لا يؤثّر بروائح المدن. ولكن بلى، النسيم كان دافئاً.
خلال الأسبوعين الماضيين عاد أبو أحمد كلّ صبيحة. البارحة اصطحب معه مساعده وولد صغير كان قد لحق به.
كان على حقّ، المدينة قد بدأت تنتن…
أحمد ابنه أيضاً جاء لزيارتي. هو ضابط بالجيش، دقّ الجرس ودخل.
قال: «من فضلك، باستطاعتك أن تساعديني في تهدئة روع أبي. هو مهووس بمسألة النفايات. دولتنا عندها مشاكل كثيرة لتشغل بالها بهذا المسألة. لا تنتظرنّ من الجيش السوري أن يلمّ القطط المهروسة على الطرقات والليمون المعفّن».
قلت: «في طريق رجوعي من جبل الدروز، كانت الطريق منثورة بالحمير الموتى المغطاة بدود الذباب… أين كان الجيش؟». ملاحظتي أغضبته كثيراً حتى أنني تساءلت إذا كان يترتّب عليّ مغادرة دمشق فوراً، الشاب العسكري كان يخاف الحمير، وبالأخص لما يكونون موتى ومالئين الشوارع.
قلت: «أحمد، أبوك على حقّ. لسنوات عدة كان الناس يرمون النفايات كلّ ليلة الى جنبات الطريق… إنها الفوضى».
أبو أحمد أطلّ بابتسامة عريضة على وجهه. كان واضحاً أنه فخور ببذلة ابنه. كلّمه بلطف: «أحمد، أنت شاب، وأنت بالجيش وبإمكانك أن تفعل شيئاً. أنت تعرف، نحن مسلمون، وبالنسبة إلينا النظافة من الإيمان. العدوّ على أبوابنا والجيش يحتشد. إنه على المدينة أن تتعامل مع هذه المسائل، ولكنهم مفلسون. كل الأموال تصرف على الدفاع عن الوطن. هذا واجب مقدس».
«أحمد، أنت ابني وأنت في الجيش… باستطاعتك أن تقول لهم إنه ليس بمقدورنا أن ننام في هذه القذارة من حوالينا. الناس سيموتون قريباً. هذا العفن سينال منهم».
أحمد أجاب بأن هناك أسراراً ومهمّات ملحّة تتطلّب الانتباه وأن الشوارع ستنال انتباهاً عندما ستنجح الثورة بالكامل. وعندئذ دخل أبوه بالغضب الأعمى وأنا ظننت أنه سينفحر كقنبلة. وبدأ الشيخ يصيح:
«منذ عشرين عاماً، الجيش لم يفعل شيئاً سوى إملاء بطنه على حسابنا، أعطيناه أموالنا، وتعبنا، وصلواتنا، وكلّ ما رأيناه هو عرب أموات؛ العدوّ يقتل العرب والعرب يقتلون فقط العرب. أحمد، أنا تعب. أريد أن أموت وسط رائحة الزهور، وليس وسط مجارير الصرف الصحي».
خرج أحمد.
■ ■ ■ ■ ■
كان أبوه محبطاً. محرجاً. قلقاً على مدينته. حزيناً لرؤيته شيئاً أحبّه كلّ حياته يتدهور: النهر بالصيف مصبّ نفايات؛ السوق في العشية أرض مكبّ؛ الشوارع في الصباح ملأى بالنفايات… وصل بظنّه الى أن العقول هي أيضاً متلوّثة بأفكار رديئة.
قدمتٌ له شيئًا من الطعام، لأني ما أردتُه أن يترك بشعور مهان. قَبِل. لاحظت أن حزنه قد ردّه الى الوراء، وأنه سوف لا يرحل عنه بسهولة. أشعلت محرك الإسطوانات، وأول ما وجدته كان لأم كلثوم. القدر شاء أن تكون «أمل حياتي» وهذه الأغنية حفرت عميقًا في روحه .لا أعرف أي محيط من الأحزان هبَّط دفاعاته الداخلية، ولكني رأيت رجلًا يشيخ أمام عينيّ وينسحب الى حيّز لا وصول إليه.
«حبّني»، كانت تترجى أم كلثوم وهو كان يسمع. بدل أن يخسر قوة آلامه، هل كان بإمكان الرجل المسنّ هذا أن يحولها، كأنه مشطور ضوئيّ، الى مدينة عاش حبّها كل حياته؟ شغب سنة 1936، تتالي الرمضانات، الدبابات الفرنسية، صناديق المشمش الآتية من القرى في الصيف… «حبّني»، كانت تغنّي أم كلثوم، «حتى إذا كان عليك أن تلعنني». ولكن كانت اللعنة هنا، بالأكياس التي كانت ربّات البيوت تذرّي على حافة الطرقات، البقايا الرافضة، التي تخلّفها الشاحنات عندما كانت من وقت الى وقت ترفع القمامة وتذهب. هكذا كانت أرصفة الشوارع ممهورة الى الأبد بآثار مقززة، إشارات لا مفك منها.
الصبيّ من محل البقّال جاء ليأخذ أبو أحمد. وهذا الأخير كان مهتمًّا، مشغولًا، ما كان عنده رغبة بالتحرّك. وبدأ يقصّ عليّ كيف أن خاله، بأيامه، كان متأنّ بالنسبة للنظافة.
ذكر نافورات باحات البيوت، السجاد المطوي بتأنٍّ عند أول علامات الصيف، والطريقة، المتأنية، المضجرة، التي كان يقطع بها خاله أصغر مجرى ماء؛ كنت لظننت أنه على عصاه، يتصرّف كعصفور إذا مسّه أي شيء كان بمثابة لطخة فساد. «خالك» قال ابو أحمد كان مؤمناً جيداً. هو كان يتأكد من أن حديقته كانت خالية من الأوراق الميتة، وكان يغطي أرضه بالبحص والحجارة حتى يقلّل من الغبار، وكان يصرف ساعات ينتقي فيها اللحم الذي يأكله. برأي أنا، ما كان هذا هوسًا بالنظافة، بقدر ما كان حالة من النفور الدائم من بيئته، الفرق الشاسع بين شخصيته وحياته.
ابو أحمد في الآخر ذهب. ولكنه وقف عند عتبة الباب، كان يتأمل بعاقبة ما كان ينوي فعله. سينظّم الجيران لكي يطلب من الحكومة عملًا فعّالًا أكثر في تنظيف الأماكن العامة. وافقتُ. كنت متقززة، في كافة أرجاء المدينة من منظر هؤلاء الأكياس الموبوئين التي تفوح منها رائحة كريهة، المصطفّين في الشوارع كأنهم تلال من قنابل معطّلة، قديمة، وفاسدة قد تركها مشاغبون خائبو الأمل… نفس الصورة التي لشعب عاجز بكامله.
«يا حبيبي مبارح، وحبيب ده الوقت، وحبيبي البكره…» كانت تغني أم كلثوم، غطاء من مخمل على مستنقع المدينة.
أبو أحمد، وأنا، والصبيّ، تنقّلنا على مدة أيام من باب الى باب طالبين الدعم للعريضة. نحن توجّهنا بلطف، لم نحمّس أحدًا، ولا ألححنا… الناس يبدون أنهم معتادين على القمامة هم ما لاحظوها وإما بعضهم يتظاهرون بأنهم لم يلاحظوها. الشباب كان الأفظع: كانوا يتحدثون عن الحرب أو البنطلون الجينز التي ينوون شراءه؛ ما زلت أرى أمامي وجه هذا الطالب الثانويّ، الأقسى وهو يقول لي: «أقلعوا عن هذا. نحن الذين رائحتنا كريهة، نحن الموتى السائرون. كل المدينة فيها نفس فاسد». أبو أحمد ظنّ أنه إنما يضخّم الأشياء، وأن الأمور ليست بلا أمل… هو ما كان يفهم كيف يقبل أحدهم أن يعيش في وسط الأوساخ وأن أحد الشبان يكون على هذا الحدّ من المرارة.
نحن تدبرنا أمرنا لنجمع خمسة عشر شخصًا والتحق بنا الشاب الصغير مع تهكّمه. الحجّة التي أقنعتهم كانت الحجّة الأحبّ الى قلب أبو أحمد: وهي أن فقدان النظافة كان نوعًا من وجع مخالف لروح النبي. الالتهابات، الأوبئة، لا يتسبّبون بحذر لأنهم إذا تفاقموا بسرعة البرق يبدون وكأنهم حوادث خارج عن الطبيعة آتية من قرار إلهيّ.
تظاهرتنا الصغيرة انطلقت، تنادي الله أكبر ووصلت الى باب الوزارة حيث كان أحمد يحرس.
أزمة كانت تتحضّر. ذاع الخبر كالنار، بين الطبقة الوسطى، في الأسواق، عند أبواب المدينة، والى مضارب سائقي الجمال؛ كانوا يتكلّمون الآن، علمت من بعد، عن «ثورة معادية» دموية.
أبو أحمد طلب أن يرى ابنه. كان أكيدًا أن هذا الولد اللابس البذلة عنده سلطان قويّ. أحمد كان بالحقيقة أحد حرّاس أمن الوزارة، واقفًا كل يومه على لا شيء. شعر أحمد بالغضب الشديد والقلق عندما رأى والده آتياً مع مجموعة من المواطنين الغاضبين. وقف هناك، وكأنه لا يعرف الرجل المسنّ، وكأنه يواجه شيئاً مهدداً كان عليه أن يزيحه من مرأى عينيه.
أبو أحمد ظلّ يبتسم فخوراً. خطا خطوة الى الأمام ومحاولاً أن يستميل أحمد ليهمس شيئًا بأذنه. ثم رأيناه توقف فجأة ونظر الى يديه، كأنما إذا ما لامستا أزرار البذلة، صارتا باردتين وخائفتين.
بعض الجنود سألوا ما هو الموضوع. رأيناهم ينقسمون على ظهرهم بالضحك على فكرة أننا مهتمّون بالقمامة. صرخوا بصوت واحد: «نحن عماد الوطن، ومنشغلون بأمور جديّة. اخرجوا من هنا».
«لهذا جئنا»، ترجى أبو أحمد، «من فضلكم أدعوا القائد، عندنا طلب. المدنيون لا حيلة لهم. أما الجيش، هذا أمر آخر. هو يعمل بسرعة، عنده كل القدرة».
لبرهة أحمد كان أعزل من السلاح متفاجئاً أمام ما اعتبره سذاجة أبيه. حاول إقناعه بالأمر الواقع، قائلاً: «اسمع، الثورة ستستجيب لحاجاتكم، أعطها الوقت»!
الرجل المسنّ فقد صوابه. «أي ثورة هذه رائحتها كريهة. أقسم بالله إن رائحتها كريهة».
أحمد ارتعب. بينما كان يحاول أن يدخل المبنى الجنود كانوا يتدفقون من كل صوب، تمركزوا على الدرج وفي الشارع، وأبو أحمد، واقفاً وحيداً في وسط المعمعة… كل السنين الماضية، الإضراب الشهير ضدّ الاحتلال الفرنسي، الذي شلّ دمشق مدة شهرين… هو طرد العثمانيين في اختلاط من أمره.
أحمد عاد فظهر، مرافقاً باثنين من عناصر الجيش واحد عن يمينه والآخر عن يساره. عيناه كانتا تشعّان بقدر ما شرائط بذلته كان يصرخ: «إذهبوا، إذهبوا، أوقفوا هذا الجنون، عندي أوامر أن أوقف هذه الغوغاء، وسأطلق النار». كان جاداً في ما قال وكان يعني ما يقول.
نحن تراجعنا. أبو أحمد كان ما زال يترجى «من فضلكم ، من فضلكم….»،وأنا أعتقد أنه كان يظنّ أنه سيأخذ ابنه بين ذراعيه، ليقنعه، ويدخله شرف وعده. ولكن أحمد أطلق النار على الجماعة، والرجل المسنّ سقط على حافة المبنى.
ميت. وحده الصبيّ الذي كان من الدكان اتجه صوبه. ثم عاد اليّ وسألني بجديّة الصغار: «كيف لأبو أحمد أن يبكي بعد موته؟» فسّرت له أنه أحياناً الدموع المتجمعة في العينين تجري من تلقاء نفسها، حتى لو مات الشخص».
أبو أحمد نال كفناً نظيفاً لدفنه، على الأقل. الجماعة التي رافقته الى المقبرة كانت نفسها التي ذهبت معه الى الوزارة. أحمد ابنه كان قائد الموكب. أنا لست أعرف أبداً إذا كانت الحركة المرتسمة على وجهه سببها الحزن العميق أو الفخر بأنه قد أتمّ الواجب… أما بعد فإنه كان يشعر بالتعلّق بالجيش كما يشعر المرء بالتعلّق بعائلته.
نحن رجعنا الى شققنا المعتمة. لا نظّفنا نفوسنا ولا شوارعنا.
«وقبلت الدنيا، وقبلت الحب» كانت تغني أم كلثوم. سنستمع لها ونستمع أيضًا، وسنغرق في صوتها، نغيب فيه، بلى، وستموت هي ونحن نشعر بالوحدة القاسية.
_________
كلمات
العدد ٢٧٢٣