من سيرة الأيام/ بين زمنين


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
“ما لم تقله في حينه فعليك أن لا تقوله أبداً”.. وهذا ما كان منّي.
برغم كل تلك السنين، إلا أنني ما زلت عالقا بين لونين وزمنين.. مكللين بالرماد، وبصدى أصوات عتيقة، معاتبة. ردم الحجارة، حول بوابة السور الخارجي، أو ما تبقى منه عند حافة السّيل الذي جفّ، ولم يبق منه إلا مجراه.
في ذلك المكان النائي تحديدا، وقفت، لأدفن المسافة التي أبعدتني عن هنا زمنا طويلا.
لم يزره أحد، منذ زمن بعيد، سوى الشمس. هذا ما قاله لي رفيقي. كنتُ أدركتُ هذا من شحوب لونها النحاسي، المتروك فوق أقواس الحجارة، على امتداد السور، و لون آخر، كان في احتضاره، قد أتى على هيبة الجدران الخارجية بأكملها لذلك البيت، أحواض الزينة لم تسلم، التهم أغلبها في طريقه، حتى تلك النوافذ، بدت لنا منقبّة، تداري حول وجنتيها احمراراً ما، كان يشبه الصدأ.
شرفتة المستديرة، المسوّرة بمشربيات الرخام المنحوت، تبقّعت ببثور مؤذية للبصر، تنز سوادا، استدارت، لتواري سحنتها عنّا في خجل.
تلمستُ السور وبوابته الحديدية الضخمة، قفزت إلى ذهني تلك الفجوات الكثيرة حول جدران البيت، ذلك العدد الهائل منها، وكيف أن فرحتي بما كان سرّاً محيراً، وبات لي بعدها تسمية معروفة، كان قد حرمني من البوح لها بمشاعري، وللمرة الثانية، بعد سرّ الساعة الحائطية، في حينه.
“هذا العدد الهائل من الفجوات الواسعة، الا يبوح للناس بما يضمره القصر، وقاطنيه، الا يعدّ أمراً خارج السياق؟ نحن نسميه في بيوتنا الصغيرة، طاقة ، ولكنه مختلف تماما عمّا لديكم، فماذا تسمونه أنتم؟ 
تعاود الضحك، تجيبني باستفزاز جميل يليق بصبية حسناء، مثلها: لن أبوح لك بالتسمية، ما دمت لا تزورنا، ألسنا جيران؟
ذلك اليوم البعيد، كنّا وحدنا، نطوف حديقة القصر، ونطالع أحواض الزينة تحت تلك الفجوات الواسعة، قالت لي: أول فضولي عرفته الطريق، تأملها، ثم راح يلتهم الجدار، نظر في سخاء لافت، حدّق بجرأة، وحين لم يفلح، تخطى من معه، وقال عنها نوافذ..!”
الأصوات القادمة من وسط الفناء غير مفهومة، كانت ممغنطة، ويابسة، تحملها نحو الطريق العام، زوابع صغيرة، تثور وتندمل في ذات المكان، لكنها لا تبرح حدود الضاحية.
****
تحشرج الصوت وسط الفناء الواسع وعلا نحونا بترحيب فوق العادة، السّعال المتقطع أضفى على تلك الحميمية، وحشة إضافية، إلى جانب كونه مباغتا وعلى غير توقع منّا، جفلنا على وقعه.. رفيقي وأنا، ولفّنا صمت.
أطلّ وجه “أم خيرت” متوردا، متغضنا، فاختفى الردم، انتزعتنا من حيرتنا على الفور، وحملتنا نحو كراسي الخيزران، حول النضد الطافح بأطباق الفاكهة والقهوة، تلفازها القديم، لا زال يستقر تحت شرفة البيت المستديرة، بين أعمدة الرخام “الكورنثية” لمدخل البهو، ويبث عروضا “شركسية” راقصة، قديمة، تسيل بإيقاعها الجميل على درج المدخل ثم تنسكب بيسر نحو أطراف الحديقة. تلقفتها عيوننا، كلوحة عتيقة، بلونيّ الزمن الجميل، الأبيض والأسود.
لا عليكم. قالتها لنا بغبطة خالطها بعض اللهاث. جلسنا في ارتباك واضح، لم يلبث أن أطلّ ” أبو خيرت” بدثاره الشتوي ونظارته السميكة، رحّب فوق استطاعته بقدومنا، ثم جلس. 
“توجان”، الصبية ذات الوجه الأجمل بين صبايا الحيّ، على ضفة السّيل، بلا منازع، خفق قلبي لها، وهي تثب في وقار من تحت شجرة “الجمّيز”، أقصى الحديقة، وتخطو نحونا، لا زال قوامها مغزليا، رشيقا، ينحت الأرض ويشق الفضاء، توارى عودها تحت ثوب طويلا بذيل سمكي غريب، صافحتنا بابتسامة عميقة، ثم جلست هي الأخرى.
هبّت رياح “أم خيرت”، فحرّكت موجة عارمة من عتاب ولوم، هدرت على أطراف الأمسية، تصدى لها “أبو خيرت” قبل أن تجتاحنا، مبررا: الأجدر بهذا العتاب أن يكون لإبنائك، “خيرت” و “ماريا”.. وليس لسواهم، من منهما تجرّأ بالسؤال عنّا أو حتى فكّر بزيارتنا، طوال كل هذه السنين؟ 
لا أحد يعلم على وجه التحديد ما جرى لخيرت، الابن البكر، بعد أن سافر إلى “روسيا” ولم يعد. 
ولا لماريا التي تزوجت وهاجرت برفقة زوجها إلى “أميركا”، لتنقطع أخبارها بعد ذلك تماما. 
حاولتُ أن أوضح لهما بأننا لم نرحل أولا، وبأن خيرت وماريا ما كانا ليغيبا كل هذا الوقت لولا أنه لم يبق لهما شيء هنا، ليعودا من أجله، وبأنهم هم من..،
لكن رفيقي وخزني في استدراك تحذيري، بينما رمقتني “توجان” بنظرة شبه متوسلة كي أواصل، حين لم أفعل، وامتثلتُ للصمت محرَجا.
***
هل تدفّق السّيل من جديد، هل عاد يجري تحت سور البيت كعهد أيامنا الأولى؟ على وقع خريره، تبادلنا أنا ورفيقي نظرات ملغّمة بالشّك، أوشكت أن تشي بنا. وهل هذا الاخضرار، الذي عاد إلى الأكمة وأشجار الحديقة، حقيقة ؟ 
بدأت وجوه الحجارة على السور وواجهة الجدار الأمامية للبيت، باستعادة لونها، اختطفتها من يد الذاكرة الشاحبة، ومن حواراتنا، على سبيل الإعارة. مسحتْ عنها لون الشمس النحاسي، وباتت تشاركنا الأمسية.
توجان.. جميل أن يجمعني بها القدر؟ هل سأحظى بلقاء آخر؟ أم أنه لقاء عابر وأخير، وحريّ بي أن أستغلّه كفرصة أخيرة، فأبوح لها بما هو مؤجل؟ 
أم ما لم نقله في حينه، وجب عليه أن يظلّ حبيس صدورنا، وإلى الأبد؟ 
أيقظتني فرحة حقيقية للمرة الأولى، حين أتت توجان على سيرة “الساعة الحائطية” … سكت الجميع، بانتظار شيء ما، حين هتفتْ بي: هل تذكر؟
“عصر ذلك اليوم البعيد، تخطينا بهو الأعمدة “الكورنثية” إلى بهو الصالة الداخلية، وكنّا وحدنا، ضحكت منّي “توجان” طويلا، وهي تبوح لي بالسرّ. أنظر، إنها الساعة ذات الرقّاص، ولا شيء آخر، هذا كل شيء.”
فيما مضى، وفي منتصف الليالي الموحشة المهجورة بصمت أصحابها، وما أكثرها حول هذا القصر الموحش، والتي يمكن لها أن تكون باردة الأطراف، مثلا، لترقد تحت وطأة طقس شتائي الهبته الكوانين.
كان غير مألوف لدينا كجيران، ذلك الصوت الرخيم، وهو يقع بكل تلك الرتابة الموحشة على أسماعنا وبيننا ليلا، دقّات عميقة، تعلو على خرير السيل بذلك الوقع المحيّر، والمفزع أحيانا، وكنتُ أظلّ على قلقي حتى الصباح، دقّات غامضة لها أن تتكاثف بين الزوايا وعلى امتداد الدهاليز المعتمة، أو تعبر الطرقات، ثم تقفز من طاقات النوافذ، لتنشر إحساسا أكثر وحشة بين النائمين، وأرواحهم، تحت أغطية الصوف الثقيلة.
” عصر ذلك اليوم، كان إيقاع السّاعة البندولية الضخمة، يتردد عاليا في جسد الخزانة الواقفة بين أرض الصالة وسقفها، ثم ينحدر منها جلياً على رخام السلالم في وقار مماثل، يميل أحيانا فيسقط، انكسر بعضه، بينما التف بعضه الآخر كخيط من حولنا، ربما فرحتي بالسرّ وحده حرمتني من البوح لها بحبي، ذلك النهار”.
أجبتها أمام رفيقي ووالديها: بالطبع، أذكر كل شيء، حتى أدق التفاصيل.
***
جذبتني “توجان” بعيدا عن حدود الجلسة المسائية، نحو أقصى الحديقة، صرنا وحيدين، وكان كل شيء مواتيا للتخفف، للبوح لها بعشق قديم. تحت شعاع ضئيل للقمر، أشعل الأكمة، بادرتني قائلة: كنتَ ستفضي بشيء أمامنا، لكنك أحجمتَ في اللحظة الأخيرة، وآثرتَ السكوت، شيء يتعلق بي وبالعائلة، أيمكنني أن أعرف ماهو؟ أرجوك فهذا يفسّر لي أشياء كثيرة.
كل الجدران العتيقة تتعرق بهمسها، دون كلام.. فمن سيصدّق؟ امتلأتُ بهذا الخاطر وأنا احدّق طويلا في عينيها، قلتُ لها في رجاء: أنا عنّي أريد أن أصدق، سأصدق أي شيء طائعا، أنا من يحتاج لتفسير، ليحيا بما يرى ويسمع.. هذا اللقاء، وسهرتنا المسائية، على أصداء خرير سيل جفّ منذ دهر طويل، أنا من يهمه الأمر ليعرف، أريد أن أعرف السّر؟ 
هزني صديقي برفق وقال: أي سرّ؟ لقد رحلوا منذ ثلاثة عقود، ولم يبق الآن إلا أنا وأنت..!
نظرت، كان ردم الحجارة قد عاد إلى مكانه. 
صديقي وهو يشيّع المكان، كان يواصل حديثه: وأناس علقت أذهانهم بين زمنين، ولونين.. مثلنا!
_______________
*قاص أردني 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *