*رامية نجيمة
خاص ( ثقافات )
عندَما علِمت الآنسة “سين” أنّه قد وقَع الاختيار عليها، لتكون ضِمن لائحة المشاركين في مهرجان القصّة الدولي، الذي سيُنظّم في بلدٍ شقيق؛ رقص قلبُها فرحاً وشعرَت أنّها تُحلّق بين أبراج السماء… إدراج اسمِها في تظاهرةٍ ثَقافية كهذه، كان ولا يزال أحدَ أحلامِها الكبيرة التي لَم تتصوّر أنّها ستتحقق وهي لا تزال في عمرها الغضّ؛ هذه إذن، فُرصتها الذهبية لتثبت لكلِّ أولئك الحاقدين الذين يُشَكّكون في مَوهبتها _وما أكثرهم!_ أنَّها قادرةٌ على إبهار جمهور المهرجانات الكُبرى، بما فيه مِن مثقّفين ومُبدعين ونقاد.. حتى أولئك الذين اشتهروا بصَرامتهم… هؤلاء أيضا يجب أن تُبهرهم ! لذلك فقد أدرَكت أنه يَتعيّن عليها أن تُعِدّ قصةً جديدة ومتميّزة كتميّز المناسبة.
الآنسة “سين” تعرف جيّدا أنّ صِناعة قصّةٍ باذِخة لا يقتصِر على الاهتمام بأحداث القِصة وشَخصياتها وزَمكانِها… بل إنَّه يتطلّب بالدرجة الأولى إحساسا قويّا وعَميقا بما سَيُكتب. الكتابة بالنسبة إليها كفَنِّ التمثيل؛ فالمُمثّل الناجح، هو الذي يتقمَّص الدور حتى يبلغ مَرحلةَ التَوحُّد مع الشخصية؛ فيصبح هو هي، وتصبح هي هو؛ حتى يصير من المستحيل التفريق بينهما. أما المُمثِّل الذي يحفَظ كلماتٍ مُحدّدة، ويُردّدها كمهرِّج أبلَه، بحركاتٍ ميكانيكية ساذجَة، فإنه لا يُثير، في الغالب، إلا سُخرية المُتلقّي، أو شفقته في أحسن الأحوال! لذلك، وبما أنّ هناك شهراً كاملا يفصِلها عَن موعِد المهرجان؛ فإنّه مِن الأجدَر أن لا تَتسرّعَ في رصّ كلماتٍ آجورية تصِف أحداثاً جامدة.. لا تستفزّ العقل ولا تهُزّ الوجدان. ماذا سيُضير إن هي انتظَرت حُلول إلهامٍ ربانيّ يأتيها بقصّتها المُشتهاة؟ وإنه آتٍ لا مَحالة !
في المقابِل كانت هناك أولوياتٌ أخرى تشغَل تفكيرَها ولا تقبل التأجيل بأيّ حال؛ فأن تحضُر مهرجانا دوليا، يعني أنها يجب أن تولي شكلَها بعضَ الاهتمام… “يجب أن يكون حضوري على المنصّة طاغيا !” هكذا فكّرت الأنسة “سين”.
وإذن، فقد بدأت استعدادَها لهذا الحفل الأدبيّ المميّز على النحو التالي:
في الأسبوع الأوّل، خضعت لحِمية غدائية تعتمد على الإكثار مِن الخضر، والفواكه، والحبوب؛ والتقليل من اللحوم، والنشويات، والدهنيات، والملح، والمضافات الغذائية… وهذا كي تُخلّص جِسمها من السّموم، وتُكسِب بشرتها المزيد مِن النَضارة والإشراق. كما ضاعَفت حِصص التمارين الرياضية، لتَحظى وقفتُها أثناء إلقائها بالخفّة والامتداد والرشاقة..
وفي الأسبوع الثاني، وضَعت جسدها بالكامل بين يدي خبيرة تجميل لتخلّصه من الشعر الزائد، وتنقّي بَشرته مِن الشَوائب والرُؤوس السَوداء.. وبالطَّبع لَم يفُتها أن تخضَع لحِصصِ تدليك تكون لها نِعم السَند ضدَّ التوتّر والقلَق.
أما الأسبوع الثالث، فقد قَضت جُلّ نهاراتِه في الأسواق.. كانت عَملية شِراء المَلابس وما يُلائمها مِن أحذية وحَقائب يدوية.. عملية مُكلّفة ومُرهقة للغاية؛ لكنّ تشريف بلدِها، وإعطاء صورةٍ مُشرِقة عن أديباته.. هي مَسألةٌ فوقَ كلِّ اعتبار !
في الأسبوع الرابع: قامَت بِبعض الحِسابات الضرورية، فتحقّقت مثلا مِن أنّ مناخ المدينة التي سيُقام فيها المهرجان، سيكون مُعتدلا يومَ وقُوفها على المِنصّة. وتأكَّدت من أنّ قارورةَ عِطرها المُفضّل لا تزال ملآى بما يكفي لتَمنحها شعوراً بالقوّة والتميّز وهي تُلقي قصَّتها الرائعة.
وذات صباح، قبل أيام قليلة على مَوعد فرحِها المنتظَر… استفاقت الآنسة “سين” من نومها، وراحت تداعب خصلات شعرها، وهي لا تزال بعد في السرير. وفَزِعةً، قفَزت قفزة واحدة وإذا بها أمام المرآة… لقد هالها حال شعرها المتردي ! وهَرعت مِن ساعتها إلا مُصفِّفة الشعر التي أخبَرتها أنّه يتعيّن عليها أن تُخصّص ثلاثَ حِصص كاملة لتُغيّر قَّصة شعرها، وتُجدِّد صَبغته. لَم تُبدِ الآنسة “سين” أي اعتراض، لكنّها فكرت أنّ ما سيفضُل لديها مِن الوقت بالكاد سيكفيها لتَهييئ حقيبةِ السفر؛ وهذه واحدة مِن أصعَب المَهام المَنوطة بها.. إذ إنّ كُلّ ما بذلته مِن مَجهود في الفترة الماضية سيكون غير ذا أهمية إن هي نَسِيت إحدى المُستلزمات التي أعدَّتها بعناية.. وهَكذا أخذت الآنسة “سين” ورَقة وشَرعت تُدوِّن عليها كلّ ما يُفترض أن تضُمّه حقيبة السفَر؛ فدوّنت: الفُستان البرتقالي القصير، والصندال المُذهّب اللامع ذو الكعب العالي، وحقيبة اليد الجلدية الصغيرة الأشبه بعُلَب الهدايا، ومِعطف القَطيفة الأسود، والخاتم الذهبيّ الذي تتوسّطه كويرات مُلوَّنة لامعة، وأحمر الشِفاه المُقاوم للماء، وكُويرات أحمَر الخُدود، وسروال الجينز الأزرق، والحذاء البني، وحقيبة جِلد التمساح البنية، والقُبّعة الشمسية، والمرهم الواقي من الشمس، وطلاء الأظافر الأحمر القاني… وأشياء أخرى كثيرة، حتى تلك القِطع الزائدة الصغيرة، من مُجوهَرات ومَشابك للشعر.. دوَّنتها بعناية بعد أن وصَفتها بدقّة لا تَتركُ مجالا للسّهو أو الخطأ.
…………….
كانت الأنسة “سين” مِن أوّل الواصِلين إلى البلد المُنظّم للمهرجان.. وبالتأكيد كانت هي أوّل مَن يصِل إلى الفندق الخاص باستقبال المشاركين، وأيضا، أوّل مَن يغادرُه نحو قاعة المهرجان.. وكم كان بديعاً ذلك الإحساس بأنها تصل باكراً وكافيا لمَنحها إحساسا بالتحكّم والثقة، لولا أن واجهتها هناك مشكلة غريبة، يبدو أنها نسيت أن تعمل بحِسابها مِن قبل ! لقد تذكّرت فجأة، وذلك بعد أن جلَست إلى مقعَدِها في الصفّ الأمامي وشَرعت تُصغي إلى المقدّم الواقف على المنصّة وهو يُذكِّر بأسماء المشاركين والمشاركات في هذه الأمسِية القصصية.. تذكّرت، أنّها لَم تُحضِّر القصّة التي يُفترضُ أن تشارك بها في المهرجان !
إنها طيلةَ الأيامِ التي مَضت، لَم تكتُب أيّ قصةٍ جديدة، والآن قد أدرَكت بعد أن بات يفصِلها عَن موعد وقوفِها على المنصّة ما لا يزيد عَن نِصف ساعة، أنها في ورطة حقيقية؛ إنها لا تملك أيّ فكرة عما يمكن أن تقرأه هذا المساء أمام هذا القدر الهائل من الأدباء والمُثقَّفين !
ماذا ستفعل؟ هل تختفي من القاعة قبل أن يُنادى على اسمها، ثم تدّعي لاحقا أنها ذهبت بعد أن أُصيبت بوَعكةٍ مُباغتة؟ أم تقِف في مُواجهة الجمهور وتعتذر لأنها نسِيت أن تكتب، أو تُحَضر من قديمها ما يمكن أن تقرأه؟ آه ! نعم ! يمكنها أن تُغني لهم أغنية.. ! أو تطلب من المسؤول عن الصوت تشغيلَ مقطعٍ موسيقيّ ترقُص على وقعِه للحُضور الكريم ! وهذا الفستان القصير، وهذا الحذاء ذو الكَعب، إنهما مناسبان تماما للرقص! أمّا شعرها المتموّج فسيكون خير سند، إن هي فكرت في التمايل بخصرِها المَنحوت يميناً وشِمالا !
أحسّت الآنسة “سين” بدوخَة تعصِف بِكَيانها، وصارَت تَرى نفسَها أشبَه بمُحارب أعزَل وسَط حَشد مِن الجُنود الأعداء.. ولأوّل مرّةٍ في حياتِها شعرت كأنّها عاريةٌ تماما، وأنه لَم يتبق للحاضرين إلا أن يُشيروا إلى عَورتها ويُقهقِهوا ضحِكا !
قامت الآنسة “سين” مُتثاقلة، مُنَكّسة الرأس. وفي زَمن قياسيّ، لم تُدركه حواسُها، كانت مُقرفِصة داخل الحمام، وهي تسند ظهرها ببابِه.. كانت تبكي، لا بل تشهَق وتنوح.. يا لهذه المصيبة! كيف فاتَها أن تُحضِّر قصة جديدة؟! كيف نسِيت شيئاً كهذاً وهي الفَطِنة الحذِقة الحَريصة على أدقِّ التفاصيل؟ !
“قد أكون سخيفةً، بَلهاءَ، خَرقاء، حَمقاء، تافِهة، سَطحية.. لكِن يجب أن أكون قوية، لا وقت لديّ للبكاء، لا إمكان عندي للتراجع… يجب أن أكون قوية، يجب أن أكون قوية !”
قالت الآنسة “سين”وهي تكفكِف دموعَها، وتحمد الله لأنها تضع ماكياجا مقاوما للماء ! وفي الحال، راحت تبحث في حقيبة يدها التي تُشبه صندوق الهدايا عَن ورقةٍ وقلَم، وحمدت الله مرة أخرى حين وجَدتهُما.. بَسطت الورقة المُتكمّشة على حقيبتها..وكانت _ولا عجَب في ذلك_ هي نفسُ الورقة التي دوّنت عليها أشياءَها قبل السفّر ! ثم راحت، بيدين مرتجفتين، تكُبّ على ظهر تلك الورقة ما يُمليه عليها عقلها.. وفي خلال خمسة عشر دقيقة،كانت قد أنهَت مُهمّتها بالكامل !
هرعت الآنِسة “سين” في اتجاه قاعَة الإلقاء، وجلسَت على مقعدها،بعد أن عادَت إليها بعضُ الثقة. وما إن صارت فوق المِنصَّة، حتى شَرعت تَقرأ على الناس قِصّتها.. إنَّها قِصّتُها الحقيقية.. قصّة ما مَرّت به مِن أحداثٍ منذُ أن علِمت بإدراجِ اسمها في قائِمة المهرجان، حتى اللحظة التي اكتشفت فيها لا تجِد ما يُمكن أن تقرأه على مِنصتّه ! وكان أن زادت على ذلك توقّعاتها بخصوص بعض ما قد سيحدث في الأيام المقبلة…
“أجمَلُ القصَص..” هكذا عَنونَت الآنسة “سين” قصّتها، وقد بدأتها بالعبارة التالية: ” عندما علمت الآنسة “سين” أنّ اسمها مدرج ضمن لائحة المشاركين في مهرجان القصة الدولي الذي سيُنظم بعد أسابيع قليلة في العاصمة، رقص قلبها فرحاً، وشعرت أنها تحلّق بين أبراج السماء…”
وأنهَتها بعبارة: “ولَم تكد تمرّ أيام على هذه الواقعة، حتى كانت عَشراتُ الدِّراسات النَقدية تُكتب في تَحليل قصّة: “أجمَل القصص..”.
إستمع الحُضور إلى تلاوة “الآنسة سين” بخشوع مَن يقِف على القمر ! ثم صفقوا لها حتى تورّمت أيديهم ! وما إن صارَت أسفَل المِنصّة، حتى تهافَت الجميع على تَدوين رقم هاتفها، وعُنوانها الإلكترونيّ، والتقاطِ بعض الُصور.. ولَم تكَد تمرّ أيامٌ على هذِه الواقِعة، حتى كانَت عَشراتُ الدِّراساتِ النَّقدية تُكتب في تَحليل قصّة: “أجمَل القصص.. “
تأليف: الآنسة س..
________________
*كاتبة مغربية.