إيهاب الملاح*
كلما قرأت نصا روائيا أو قصصيا مما تقذفه علينا المطابع كل يوم تحسرت على الحال التي وصلنا إليها من المباشرة والسذاجة وتعجل النتائج على حساب «المنتج» نفسه. ليس أسوأ من تجربة قراءة نص رديء، معاناة حقيقية وخبرة مرهقة، وأتساءل
لماذا نقرأ الأدب؟
هل نقرأ الأدب كي نعاين خبرة جمالية ومتعة شعورية في المقام الأول وصولا إلى إرهاف الوعي واكتساب رؤية جديدة للعالم أم نقرأ حروفا وكلمات مرصوصة في مئات الصفحات خالية من الجمال والفكر والشعور مجموعة بين دفتي كتاب بغلاف مبهرج مكتوب عليه «رواية» وانتهى الأمر عند هذا الحد؟!
الحقيقة، ولأنني لا أمل من التذكير والإشارة إلى ما أسميه «دروس الكتابة» أو «أنفاس الكتابة الرائقة» التي أبدعها وقدمها كبار كتابنا عبر إبداعاتهم وكتبهم؛ فإنني دائما ما أستحضر دروس شيخ الكتاب والجد المقدس، يحيى حقي أحد أولياء الكتابة الصالحين ذلك الذي بهرني، منذ تعرفت على نصوصه، بإبداعه وحسه ونظراته المختلفة للغة والأدب والإبداع بشكل عام.
ولأن حقي كان بالفعل شيخ طريقة؛ ومتذوقا عظيما من كبار المتذوقين للجمال والفن واللغة، فإن دروسه التي ألقاها بغير تكلف ولا ادعاء ولا وعظ إنما هي على الحقيقة «كنز أدبي» و«فني» لمن يبحث عن زاد يعينه على اجتياز الرحلة، وشق الطريق، وأتساءل: كيف لهذا الكنز أن يظل بمنأى عن عيون مريدي الكتابة ومحبيها؟
كنت ممن أسعدني الحظ بقراءة الأعمال الكاملة ليحيى حقي في طبعتها الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، قبل أكثر من عشرين عاما، تقع في ما يزيد على عشرين جزءا؛ المجلد الأخير منها حمل الرقم (28) بعنوان «كناسة الدكان» وهو الجزء التاسع من المقالات الأدبية؛ (جمعها وأعدها للنشر الناقد الراحل فؤاد دوارة).
من ميزات هذه الطبعة الرائعة، أنها كانت زهيدة الثمن، متوفرة في كل فروع ومكتبات هيئة الكتاب، حجمها أنيق، حملت عنوانا جامعا «مؤلفات يحيى حقي»، وكان غلافها أيضاً يحمل صورة بالأبيض والأسود لحقي يرتدي نظارته الطبية، ويحمل عصاه التي لم تفارقه في سنوات الكهولة والشيخوخة، وعلي وجهه ابتسامته الحانية الوديعة التي تحمل أطنانا من الرضا والمحبة والسلام النفسي.
ومن أهم ما ميَز هذه الطبعة، أيضاً، ومنحها قيمة خاصة، اشتمالها على كتبٍ ومقالات لم تنشر من قبل بين دفتي كتاب، استخلصها بدأب وحب «فؤاد دوارة» من بين ركام صفحات الجرائد والمجلات التي نشر فيها حقي على مدي أكثر من ثلاثة عقود. المقالات الأدبية وحدها جمع دوارة منها 9 أجزاء متصلة، وكانت المرة الأولى التي يقرأ فيها محبو حقي مقالاته مجموعة بين دفتي كتاب اتخذ لها عناوين صارت أشهر من نار على علم؛ «تعال معي إلى الكونسير»، «يا ليل يا عين ــ سهراية مع الفنون الشعبية»، «عطر الأحباب»، «حقيبة في يد مسافر»، وغيرها.
ورغم صدور طبعات تالية من أعماله، فإن هذه الطبعة من أحبها إلى قلبي وأقربها إلى نفسي، خاصة تلك الأجزاء التي جُمعت فيها مقالات حقي عن الأدب والفن والنقد واللغة؛ تحديدا كتابيه «أنشودة للبساطة ــ مقالات في نقد القصة»، و«عشق الكلمة ــ الكتابات النقدية».
في هذين الكتابين تحديدا، على الترتيب: «أنشودة للبساطة» و«عشق الكلمات»، يظهر أحد وجوه يحيى حقي التي في رأيي لم تنل ما تستحقه من اهتمام ومتابعة حتى الآن، ولا وقع منه شيء تحت أيدي هؤلاء الذين يتعجلون الكتابة دون أن يقدموا لها بما تستأهله من إعداد وتكوين وثقافة رفيعة، والأهم ذائقة فنية سليمة تنتقي ما تقرأ وتستوعبه وتتمثل جوهره.
حقي لم يكن مبدعا من الطبقة الممتازة فقط في القصة والرواية، بل كان أيضاً مبدعا عظيما في كل ما خطت يمينه في الأدب والنقد والفن، في السياسة والتاريخ والترجمة، مُبدعا لا يُباري في تذوق النصوص والتعليق عليها واقتناص جمالها، يتوقف بروية عند عباراتها وألفاظها وتصاويرها، ويتأمل بعين فاحصة شبكة العلاقات الجامعة لها ومدي ملاءمتها للمعني الذي تعبر عنه أو تسعي لتصويره، كان حقي مبدعا في علاقته الحميمة باللغة التي يكتب بها، يحاورها، يهامسها، ويُسايسها حتى منحته كنوزها وخفاياها ينهل منها ما شاء كيفما شاء.
عند هذين الكتابين، أتوقف قليلا، ولأنهما لا يفارقاني منذ تعرفت عليهما، أعاود النظر فيهما، وأرجع إليهما بين حين وآخر للاستزادة أولا من الروح النقية النافذة التي كتبت بها هذه المقالات، وثانيا للإضاءات المركزة المكثفة التي قدمها يحيى حقي في ما يخص الكتابة والتعامل مع النصوص الأدبية، قراءة وكتابة ونقدا، وثالثا لأنها في المجمل تقدم خبرة رائعة وخريطة طريق ممتازة للكتاب الجدد، المقبلين على الكتابة، ولمن يبحثون عن أول الطريق.
امتلك يحيى حقي البصيرة، وأيقن أن التجربة الفنية «الحقيقية» تدرك بالمعاناة والنظر وارتياد آفاق بعيدة في استكناه روح اللغة، كان يحيى حقي من الصفوة التي انكشفت لها جماليات اللغة العربية، بإدراك وعلم، وإمكاناتها التعبيرية وطاقاتها الإبداعية (لو كان هناك باحث نابه يعكف على ما كتب يحيى حقي في هذا الموضوع ويستخلص منه خيوطا نظرية أو تصورا ما لنظرية جمالية لغوية).
حساسيته للكلمة، اللفظة المفردة، ودقائق العبارة العربية، كان مذهلا، تجلي ذلك بأوضح ما يكون في «أنشودة للبساطة» و«عشق الكلمة»، يقول حقي عن اللغة العربية إنها «لغة عبقرية في قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوي»، وهو هنا لا يصدر في هذا الحكم عن نعرة قومية أو عصبية لغوية بل عن حساسية عالية اكتسبها من مداومة النظر والبحث في إرث هذه اللغة.
أدار حقي مقالات كتابه «أنشودة للبساطة» (أو بالدقة الذي جمعه دوارة ونظمه فصولا بين دفتي كتاب)، حول التراث الأدبي، وعن الأدب العربي، وعن لغة الكتابة، ولمن يكتب الكاتب، وجولات في محراب الفن، من الصعب أن تنتهي من صفحة واحدة دون أن تستوقفك عبارة لجمال لغتها وبساطة تعبيرها، فقرة موحية بعمق طرحها وفكرتها العبقرية، نص بديع يمثل خلاصة مقطرة مصفاة حصيلة ما يزيد على نصف القرن من الإبداع والكتابة.
في موضع من «أنشودة للبساطة»، يوجه حقي حديثه لناشئة الكتاب وشباب القراء على السواء عن الأدب العربي القديم، يقول لهم «لا تنسوا أن الأدب العربي هو مادتكم التي تشتغلون بها.. اقرؤوه بإمعان.. بنظرة فاحصة جديدة تسندها ثقافة العصر، هو وحده الذي سيعلمكم فن القول. وما فن القصة إلا نوع من فن القول. أنتم تقيمون بناء أحجار هي الكلمات، ستجدون في الأدب العربي الخالي من القصة سر هذه الكلمات؛ دلالاتها، جرسها، أطيافها. لا تبحثوا في الأدب العربي عن القصة، لن تجدوها.. ابحثوا فيه عن الكلمة، ستجدونها.. ستشبع نفوسكم بسر اللغة التي تكتبون بها».
هذا واحد من دروسٍ ذهبية، عَمَر بها الكتاب، لو أن درسا واحدا فقط (وليكن الدرس السابق) كان نصب أعين من يبتلوننا بكتبهم، وينغصون علينا العيش بما تخرجه المطابع والدور، لاختلف الحال والله!
أتفق، تماماً، مع بلال فضل الذي قال «إن قراءة كتب يحيى حقي بمثابة آليات علاجية ضد الاكتئاب والزهق وكرشة النفس، فلغته لا مثيل لها بين الكتاب جميعا».
* الشروق.