* قحطان جاسم
تنبع أهمية الرسائل المتبادلة بين مشاهير الأدباء والفنانين والمفكرين مع أصدقائهم وحبيباتهم أو زوجاتهم من قدرتها على كشف الجوانب الذاتية لهم ،لأنها لم تكن رسائل مكتوبة أصلا لأجل النشر، بل للتداول الشخصي. مع ذلك يجد فيها العديد من الباحثين ومؤرخي الأدب والفكر معينا لا ينضب لفهم القيم والأفكار والأحداث، التي تشكل الجانب الخفي لأعمال أولئك المشاهير .ويمكن الإشارة في هذا الصدد الى رسائل المفكر الوجودي الدانماركي سورن كيرككورد الى زوجته ريجينا و رسائل الأديب التشيكي فرانز كافكا الى صديقه ماكس برود، رسائل الحب التي كتبها المفكر الألماني كارل ماركس الى زوجته جيني أو رسائل فلوبير في أربعة مجلدات التي كتبها بين عامي 1887 – 1893، باعتبارها بعض الأمثلة الحيّة على ذلك.
لا تحيد رسائل الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الى زوجته آنا غريغوريفنا ( يسميها أحيانا آنيا) عن ذلك. كتبت تلك الرسائل بين ألمانيا وبيترسبوغ وموسكو خلال أربعة عشر عاما (1866-1880). و تُرجمت من الروسية الى العديد من اللغات العالمية ومنها الانكليزية، إلا أنها وحسب علمي، لم تترجم الى اللغة العربية حتى الآن.
مما يلاحظ على رسائل دوستويفسكي أنها تمتلك بُنية تكاد تكون متشابهة في تركيبتها الأسلوبية، كما لو أنه وضع خطة مسبقة لطريقة عرض أفكاره ومشاعره في كل رسالة، بحيث تبدأ الرسالة بطرح سؤال عن وضع زوجته بعد أن يخبرها انه أستلم رسالتها السابقة، أو أنه تأخر عن استلام رسائلها ويطلب منها توضيح أسباب التأخير ، ثم يجيب عن بعض الأسئلة الموجهة إليه في رسائلها ، ليختتم رسائله بالحديث عن نفسه: عن وضعه الصحي وما واجهه من أحداث أو يحدّثها عن الأشخاص الذين ألتقاهم ، لكنه قبل ان ينهي رسائله يعود ثانية ليطلب لها واحيانا بصيغة متوسلة وعاطفة مشبوبة بالحنين أن لا تنقطع عن الكتابة إليه ويرجوها بلوعة وألم أن تهتم بطفليه فيديا و لوبيا، وأحيانا بأسلوب يطغي عليه تعليمية تعكس قلقه الدائم على زوجته وعائلته.
قد تبدو قراءة غير ممعنة لرسائل دوستويفسكي أنها ليست ذات أهمية خصوصا لمن يبحث عن أفكار مباشرة لتفسير الخلفيات الفكرية لأدبه في هذه الرسائل، إذا ما قورنت مع العديد من رسائل أقرانه من المشاهير الذين كثيرا ما يضّمنون في رسائلهم تفاصيل عن أعمالهم والثيمات والأفكار التي تقوم عليها تلك الأعمال. الا أن الرسائل مع ذلك تمثل قيمة تاريخية وتشكل مادة حيّة لفهم الأوضاع الاقتصادية والحياتية والشخصية التي كانت تحيط بدوستويفسكي والمصاعب التي كان يكتب في إطارها وتحت ضغطها. كما أنها تلقي الضوء على جزء من شخصيته الزاهدة ولكن المتذمرة أحيانا . كان يتذمر من الإنسان الوسط الثرثار ومن الملل الذي يكاد يسلبه متعة الحياة كما عبر لها عن ذلك في أحد رسائله، وكان حينها يتلقى العلاج في مدينة “أيمس” الألمانية لأصابته بمرض رئوي مزمن ” لا ..يا آنا..الملل ليس مزحة، فحين يصاب الإنسان بالملل يتحول الى عذاب ..وسيكون السجن أفضل بكثير منه”. بقي هذا الملل ملازما له وهو يصف لها في رسالة أخرى يكتبها لها بعد سنوات، الوحدة التي يعاني منها في ألمانيا “حياتي هنا مملة بصورة لا تحتمل”ص119. كما تكشف الرسائل أيضا عن تلك العواطف الجيّاشة والأحاسيس المرهفة التي يتسم بها خصوصا تجاه زوجته وطفليه فيديا ولوبيا . وتتجلى تلك العواطف وهو يصف لزوجته فراقهما الذي لا يحتمل ” الى درجة أنني لا أقدر النظر بهدوء الى الأطفال وحين اسمع بكاء طفل فانني أصاب بكآبة ويعتريني هاجس داخلي ” ص 129
وهو لذلك لا يخفي سعادته الكبيرة كلما تلقى رسالة من زوجته آنا ، لإحساسه الدائم بالعزلة. ويعبر عن تلك الفرحة في رسالة يكتبها لها من ألمانيا ” يا ملاكي.. لا يمكنك أن تتصوري الى أي حد أنا فرح.. وأية سعادة ! قرأت رسالتيك المتكونتين من صفحتين قصيرتين اللتين حملهما البريد..لقد قبلتهما وأنا سعيد..سعيد بحبك لي..يمكنني رؤية ذلك في كل سطر.. وفي كل عبارة منك..الأسلوب الراقي الذي تكتبين به الرسائل. لا أعتقد أنني قادر على كتابة رسالة شبيهة بذلك، أعبّر عمّا يجول بخاطري وأحاسيسي. فحتى عندما نلتقي ، حتى ونحن معا فأنا لست كثير الكلام، أنا كئيب ولا أملك إطلاقا مهارة التعبير عن نفسي” ص 11
وإذا كانت الرسائل مفعمة بمشاعر الحب والشوق نحو عائلته، فإنها لا تُخفي انشغاله الدائم بتفاصيل الحياة الأخرى حتى تلك التي لا أهمية لها، وهي تدلل على حسيّة دستوفيسكي وقدرته على التقاط وتسجيل ما هو عابر ويومي، والتي وجدت لها مكانا فيما بعد في العديد من مقالاته و رواياته. فهو يخبرها في العديد من رسائله عن فقدانه لمظلته الواقية من المطر، وشرائه لحذاء جديد ..عن سعر وجبات الطعام في الفندق ، و يصف لها بالتفصيل شكل وبناء الفندق الذي ينزل فيه ، و يخبرها عن حكايات طارئة مملة لبعض نزلاء الفندق، ثم نوع وجبات الطعام التي يتناولها في المطعم أو عند صاحبة الفندق لأنها تقدم الطعام بسعر أقل سعرا من المطاعم، و كيف أنه يساوم على الأسعار، و عن زيارة الإمبراطور الألماني الى المدينة، التي يسكن فيها وتواضعه إزاء مواطنيه ، ثم يكتب لها عن مقابلته لبعض مواطنيه الروس والتبرم من عاداتهم المتزمتة و(جلفهم) ،و زياراته المتعددة للأطباء و حالات الشك التي يبديها إزاء جشع بعضهم…. كما أنه يكتب لها عن أحدى زياراته لمسرح في برلين ومشاهدته للمتحف الملكي فيها وبحثه عن هدايا لها في محلاتها ومعارضها ويعلق على ذلك” أنهم لا يريدون أن يفهموا كلامي وأحيانا يعرضون عليّ بضائع أخرى غير التي طلبتها”. كان ينتابه الحزن والكآبة بسبب سلوكيات الناس الذين حوله ، خداعهم و شراهتهم و ويبدي لها في رسالة عن امتعاضه من سطحية الألمان والروس الموجودين حوله ” الحقيقية، أن كل تعارف ، كل وجه جديد يضجرني . أقسم لك يا حبيبتي آنا ، أعتقد حقيقة أن هناك ما يبرر شعوري بالتعالي على هؤلاء الناس ليس بسبب أية فضائل أخلاقية ( لان الله وحده بالطبع هو القادر على الحكم عليهم) ولكن ما أعنيه هو تطورهم : أن ما يبهجهم يضجرني ، أحاديثهم وأفكارهم تبدو تافهة ولا لون لهم ، ثقافتهم صبيانية تماما… أنا أتحدث عن الألمان والروس. أحيانا أكون منزعجا جدا الى درجة أنني لا أتمكن من التزام الصمت . ببساطة لا يمكنني السيطرة على نفسي” ص135. و يصف لها كيف أنه كثيرا ما كان يصاب بالأرق بسبب ذلك ، حتى انه لا ينام سوى ساعات معدودة ، الى درجة أن النوم لا يغالبه الا عند ساعات الصباح المبكرة….لكنه لم ينسَ ايضا أن يذكر بعض الطيبين منهم وسذاجتهم الذين شكلوا جميعهم مادة ملهمة لأدبه.
كما انه يصف لها بعض الأحداث التي عاشها في هامبورغ ومدن ألمانية وروسية أخرى، و العوز المادي وحاجته الدائمة للمال بسبب خساراته المتكررة في صالات القمار رغم انه كان يعدها في أكثر من رسالة بأنه سيتوقف تماما عن ارتياد صالات القمار، مستجديا إياها أن ترسل بعض النقود اليه، ويصف لها معاناته وكان قد خسر كل شيء في القمار ” آنيا ..يا حبيبتي..يا عزيزتي ..لقد خسرت كل شيء.. لقد رهنت خاتمي ومعطفي ولكنني خسرت كل شيء” ص27. وبسبب ضياع نقوده وفقر الحال يكتب عندما كان في ألمانيا ” كم أنا حزين لأنني لا أملك النقود الكافية لشراء هدايا وغير قادر على حمل أي شيء في عودتي”ص146.
*شاعر وباحث في علم الاجتماع السياسي
جامعة أودنسة – الدانمارك
__________
*(المدى)