*زاهي وهبي
انتهى موسم الصيف وحلّ خريف يليه شتاء، ورغم الشتاء القاسي الذي يعيشه العالم العربي بفعل القتل المتمادي هنا وهناك وتحوّل كثير من بلداننا أشلاء ممزقة على وقع الانقسامات الطائفية والسياسية، لا تزال ثمة فسحات قليلة تمنحنا بعض الأوكسيجين الضروري لحياة عادية أو شبه عادية. من ضمن تلك الفسحات وأبرزها معارض الكتب التي تتوالى تباعاً من القاهرة إلى الشارقة إلى بيروت إلى الرياض إلى أبوظبي فالجزائر والرباط وسواها من عواصم ومدن لا يزال الكتاب يجد مطرحاً له فيها رغم القمع والمنع والرقابة المقيتة التي لم يعد لها أي مبرر على الإطلاق في زمن الفضاء الافتراضي المفتوح على مداه، فيما لا تزال بعض الأجهزة الرقابية العفنة تصر على ممارسة دور أكل الدهر عليه وشرب.
تتوالى معارض الكتب من عاصمة إلى أخرى وتشهد إقبالاً لا بأس به من الرواد الباحثين عن عنوان يتناسب وذائقتهم أو مجال اهتمامهم. قد لا تكون الكتب الأدبية في الطليعة بفعل عوامل كثيرة يطول شرحها الآن، ولعل ما يحتل المرتبة الأولى لا يزال كتب الغيب والطبخ والأبراج وسواها من عناوين لا علاقة لها بالشعر والرواية والمسرح والفكر والفلسفة، لكن مع ذلك لا يمكننا التعميم أو اليأس إذ لا يزال بعض الكتّاب المرموقين أو الكتّاب «النجوم» إذا جاز التعبير قادرين على استقطاب أعداد وافرة من القراء الذين يتهافتون على قراءة كتبهم، ولهذا الأمر معنى مفيد فحواه انه متى توافرت الدعاية اللازمة والتسويق الضروري والسمعة الجيدة فإن الكاتب يستطيع أن يحظى بالاهتمام والإقبال حتى في مجتمعات مثل مجتمعاتنا لا تزال نسبة الأمية فيها مرتفعة جداً (ولانعكاس هذا الواقع على الكتاب بحثٌ آخر).
طبعاً يمكننا الخوض في نقاش طويل وجدال مستفيض حول مقدرة الكتاب الورقي على الاستمرار والمنافسة في ظل انتشار الكتابة الرقمية والكتاب الإلكتروني، وفي رأينا أن الميديا الحديثة بمقدار ما هي منافس شرس للكتاب فإنه يمكن لها أن تشكل عاملاً مساعداً على انتشار الكتاب الورقي من حيث مقدرتها الهائلة على الإعلام والإعلان والترويج وكسر الاحتكار الإعلامي والإعلاني الذي ساد عقوداً طويلة، وبهذا المعنى نستطيع تسخير التكنولوجيا الحديثة في خدمة الكتاب الورقي بدل الاكتفاء بالنقّ والنعيّ والندب والقول: لقد انتهى زمن الكتاب!
يوم اختراع السينما قيل إنها ستقضي على المسرح وحين وُلد التلفزيون قيل انتهى زمن السينما ومع ولادة الفيديو قيل انتهى الاثنان: السينما والتلفزيون… وهكذا دواليك كلما وُلد جديد أقيمت حلقات العزاء حزناً على القديم، واليوم يُقال إن اليوتيوب وأقرانه سيقضون على ما عداهم(!)، لكن التجارب علمتنا أن لا شيء يحل مكان شيء آخر ما دامت أسباب بقائه قائمة، ولا نظن أن أسباب حياة الكتاب الورقي قد انتفت، على الأقل إلى أجيال قادمة ستظل الحاجة إلى الكتاب الورقي قائمة وضرورية، وقد تبقى هذه الحاجة قائمة إلى الأبد، مَن يدري؟ لا تزال متعة السينما أجمل وأعذب من أي شكل آخر من أشكال الفرجة رغم كثرة الاختراعات البصرية، ولم تستطع كل التقنيات الحديثة القضاء على هذه المتعة الفريدة.
ما ينطبق على السينما قد ينطبق على الكتاب الورقي (نقول: قد، كي لا نصدر أحكاماً مبرمة) فهو رغم كل التطور التكنولوجي الحاصل لا يزال حاجة ملحة من المدرسة حتى الجامعة ومن البيت حتى المكتب والمقهى، وأجمل ما في الكتاب الورقي أنه يُقرأ بالحواس الخمس، نراه، نلمسه، نشم رائحة حبره وورقه، نسمع حفيفه، نتذوقه ومعانيه، نحمله معنا في حلّنا وترحالنا، لا يحتاج إلى كهرباء وإعادة شحن ولا إلى شبكة إنترنت و»باس وورد»، نتأبطه ونمشي برفقته ليظل خير جليس في الأنام.
ربما تكون نظرةً رومانسية بعض الشيء، ربما تحمل في طياتها حنين جيل نشأ بصحبة الكتب والكتّاب، لكن السؤال الذي يحضر فوراً: هل تبقى الحياة ممكنة بلا بعض الرومانسية؟
_____
*(الحياة اللندنية)