زاهي وهبي
كان الكتاب عِوضَ حديقة عامة في قرانا النائية المحرومة من شتى أسباب الحياة آنذاك، كان شجرةً نتفيأها وشرفةً نطل منها على العالم ونافذةً تدخل الشمس منها، لم يكن ثمة شيء غير الوعر والجبال والرعاة والأتراب الجميلين، كنّا نلعب برفقة أبطال أرسين لوبين (موريس لوبلان) وشخصيات آغاثا كريستي، ونجول مدن الدنيا مع فكتور هيغو ومرغريت ميتشل وإميلي برونتي وسواهم من كتّاب عرب وأجانب، ولا تزال «أم درمان» السودانية طازجةً في ذاكرتي كأنني زرتها وتفرّست في معالمها بفضل رواية لوحيد كامل، أما أرنست همنغواي فقد عرّفني على مجموعة من «الأصدقاء» في روايته البديعة «لمن تُقرع الأجراس»، أصدقاء رافقوني في اللحظات الصعبة من الحروب اللبنانية، وكم كنت أتماهى مع أبطال روايته كلما اشتد الخوف أو تعاظم القلق، وكم بكينا مع «أم» مكسيم غوركي أو تحت تأثير قصصِ عشقٍ وكفاح وأحلام وبطولات وانتصارات وانكسارات، وكان جرجي زيدان يأخذ بيدنا في رواياته عن تاريخ الإسلام ليعلِمنا ويعلِّمنا كيف قامت دول وزالت أخرى وكيف قُتِل خليفة وعاش آخر بأسلوبه الروائي السلس الشيق، أما نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس فكانت لهم أفضال لا تتسع لها الصفحات ولا يكفيها حبرُ عُجالة. كل ذلك قبل أن نتعرف إلى شعراء فلسطين وجنوب لبنان ثم شعراء الحداثة في مجلة «شعر» وغيرها من تجارب أدبية معاصرة مع غادة السمّان وغسان كنفاني وسواهما، تجارب نقلتنا من حيّز إلى آخر في دنيا القراءة والكتابة.
بداياتٌ لا تُنسى ولا تمحى من الذاكرة والوجدان وشرح يطول عن كيفية حصولنا على الكتاب في تلك القرى النائية حيث لا مكتبات ولا من يحزنون، وكيف كنّا نجمع قروشاً معدودة من «الخرجية» لنوفر ثمن قصة أو رواية نعطيه لأحد أبناء القرية الذاهبين إلى العاصمة بيروت ليحمل لنا ما يجده في هذه المكتبة أو تلك، ولا أزال إلى الآن أستطعم الفرحة التي عشتها يوم اقتنيت أول مجموعة كتب من «الأعمال غير الكاملة» (كما تسميها مؤلفتها) لغادة السمّان، وما زلت أحتفظ بها كتميمة إلى اليوم على الرغم من أن ورقها بهت وحبرها شحب ومالت إلى اصفرار يحاكي شحوب أيامنا. حقاً كان الكتاب حرزاً وتميمة، بالمعنى الأدبي المجازي، وبالمعنى العملي الواقعي، إذ لو سألني أحدهم اليوم مَن هم أصحاب الفضل عليك؟ لذكرتُ بعد الله أسماء الكتّاب المذكورين أعلاه وسواهم ممن منحونا زوادة معرفية لا تجف ولا تنضب مهما جارت الأيام وبارت.
كنّا مراهقين نتباهى بالكتاب، نتأبطه ليرانا الآخرون وكأننا نحمل جوهرة نادرة، ونتنافس في ما بيننا بعدد الكتب التي قرأها كلٌّ منا. أستعيد هذه الذكريات وأنا أقرأ خبراً من رومانيا يفيد بأن مَن يقرأ كتاباً خلال ركوبه الباص يُعفَ من الرسم فلا يدفع ثمن التذكرة، طبعاً وكالعادة المقارنة جائرة وظالمة لطرفيها، لكن المرء لا يملك سوى أن يقارن بين الحال عندنا والحال عند سوانا، ولئن كانت النتائج محزنة ومبكية فليس فقط لأن لا أحد يقرأ في الباصات العامة في بلادنا، بل لأن لا باصات عامة في معظم بلداننا العربية، وإذا وُجِدَت فإن الناس لِقلتها وعشوائيتها يتكدسون فيها فوق بعضهم البعض ولا يستطيعون أخذ نَفَسٍ، فما بالنا بالقراءة!
ستظلُّ المقارنات ظالمة بيننا وبين الآخرين، ولن نعرف سبيلاً للنهوض من كبوة طالت، ما لم ندرك قيمة الكتاب، سواء كان ورقياً أو إلكترونياً، علمياً أو أدبياً، وحظ الأجيال الجديدة أنها بكبسة زرٍّ قادرة على الوصول إلى أي كتاب تريده وتهواه، ليست القراءة ترفاً ولا الكتاب زينة، إنها المدخل إلى التقدم والرفعة، ولعل حجم المعاناة الضاربة في بلادنا وعمق الأسئلة المطروحة أمامنا يدفعان شبابنا إلى البحث والتفتيش عما يجيب على علامات الاستفهام الكبرى وهذا لا يتحقق بغير شقّ دروب التعلّم والتثقّف. الأسئلة كثيرة ولا أجوبة شافية وتلمَس لمنافذ الخروج من النفق المسطوم بغير رفع منسوب الوعي وإدراك دور المعرفة في الخلاص من المآسي التي تعيشها شعوبنا، وفتح آفاق المستقبل، فهل نأخذ الكتاب وبقوة؟
_____
*الحياة