د. عزة بدر
بالنقش على الحجر، بالرسوم الملونة، بالسير على مياه الفيضان عرف المصريون القدماء الحب والرغبة أعنف وأرق ما يؤرق الجنس البشرى. وتصف النصوص التى تركوها لنا تراثا من الحب، فالعواطف والرغبات فى عالم الآلهة والبشر مدونة بالشعر، ومجسدة فى تماثيل تكاد تنطق بأنبل المشاعر الإنسانية وأحرها.
أجدادنا عاشوا الحياة كما ينبغى، بل استعدوا للحياة الأخرى بالشوق والمحبة!
• أغنيات الغزل
قد تكون الأغانى الغزلية التى نسمعها الآن هى التى رددها أجدادنا منذ أيام سحيقة فقد كان الشعر الغزلى معروفا منذ عهد الدولة الحديثة على الأقل، ولا نزاع فى أنه كان موجودا قبل هذا بزمن بعيد، والبحوث فى الأدب العالمى قديمة وحديثة تدلنا على أن أغانى الحب لم تحتل مكانها فى الأدب الراقى إلا بعد فترة طويلة من الزمن فى حياة الأمم كما يقول سليم حسن فى موسوعته عن مصر القديمة وعن الأدب المصرى القديم- ويرجع ذلك إلى ضرورة انقضاء أزمنة تتطور فيها مشاعر الأمة ثم تأخذ بأسباب التعبير عن وجدانها متأثرة ببيئة الشاعر والجو الذى يعيش فيه، ففى بلاد الهند واليونان توجد وفرة فى إنتاج الشعر الذى يخرج عن دائرة الغزل قبل أن يكون لهما إنتاج فى الشعر الغنائى المعبر عن العواطف.
أما فى مصر فقد حفظت لنا أوراق البردى أرق الأشعار المعبرة عن العواطف ومنها مجموعة أوراق «شستربيتى»، ومجموعات أخرى من الأغانى الغزلية يرجع عهد أقدمها إلى الأسرة الثامنة عشرة ومنها ورقة هارس رقم 500 «خمسمائة» وهى محفوظة الآن بالمتحف البريطانى، وهناك مجموعات غنائية مسطرة فى بردية متحف تورين، وكذلك على قطعة الخزف الكبيرة المحفوظة بمتحف القاهرة.
• السير على مياه الفيضان
وكان الحبيب والمحبوبة الفرعونيان يسميان نفسيهما أخا وأختا، ربما ليتوسلا بغلالة من حرير تشف وتصف دون أن تجرح علاقة الحبيبين وهى الغلالة التى استعان بها المحبون فى كل العصور، ففى نشيد الإنشاد لسليمان تقول الحبيبة «ليتك كأخ لى، الراضع ثدى أمى فأجدك فى الخارج وأقبلك ولا يخزوننى»، وكما استترت الحبيبة فى النص التوراتى استترت الحبيبة فى النص الفرعونى الأقدم، وكأن المحبون دائما بين عذاب الرغبة وصعوبة تحقيقها، فتقول الحبيبة الفرعونية «آه ليتك تأتى مسرعا لأختك/ كالغزال الشارد فى الصحراء/ الذى ترنحت أقدامه/ وتخاذلت أعضاؤه/ وقبع الرعب فى كل أعضائه/ لاقتفاء الصائد أثره/ وكلاب الصيد معه/ غير أنها لا ترى غباره/ لأنه رأى مأوى/ وقد اتخذ النهر طريقا له/ لهذا ستصل إلى مغارها/ فى مدة تقبيل يدك أربع مرات، رأى لمح البصر لأنك تقفو أثر حب أختك/ وقد قضت الواحدة الذهبية أن تكون لك يا صديقى».
«من أوراق شستربيتى»
ومن أغانى الحبيب لحبيبته ما تغنى به أحدهم فى ليلة مقمرة فيقول: «إن حب أختى على ذاك الشاطئ/ وبينى وبينها مجرى ماء/ ويربض على شاطئ الرمل تمساح/ ولكنى حينما أنزل فى الماء/ أسير على الفيضان دون أن أغرق/ وقلبى جسور على المياه التى أصبحت كاليابسة تحت قدمى».
وتعد أوراق شستربيتى كنزا لا يقدر بثمن بالنسبة للعلم والآثار، وبل فى تاريخ الشعر العالمى والتعبير الغنائى، فاصغ إلى المحب الذى يتحرق شوقا ليكون خاتما فى إصبع محبوبته تماما كما جاء على شفتى «روميو» عندما يقول: «آه ليتنى كنت قفازا فى تلك اليد ألمس هذا الخد»، ولا يقل ذلك شاعرية وظرفا وصف شجرة جميز غرستها الحبيبة بيدها وهى تناول خفية خطابا إلى يد طفلة البستانى لتسارع بها إلى الحبيب وتلتمس حضوره كما يقول سليم حسن وهو يصف هذه الأغنيات بأنه من العسير أن يتمتع الإنسان بموسيقى لا تُسْمَعُ ألحانها إلا فى لحظات متقطعة أسيانا على ما أصابته يد الزمن، فأتلفت الكثير من الأوراق التى تحمل مثل هذه الأشعار الثمينة التى تفتح لنا بابا واسعا للإطلال على رجفة العاشق أمام محبوبته، وذلك النداء الذى يشكو الغرام، والضراعة لالتماس قُبْلة: «إنها لترمينى بأحبولة من شعرها/ وإنها ستأسرنى بعينيها وتخضعنى باحمرار خدودها/ حتى تكوينى بِحَوَرِهَا. وعندما تتحدث بقلبك/ أرجو منك أن تتوسل إليها حتى أُقَبِّلها/ وحياة «آمون» إننى أنا التى آتى إليك/ وقميصى على ذراعى/ لقد وجدت المحبوب عند الجدول/ وقدمه كانت فى النهر/ ولقد كان يصنع محراب اليوم/ وكان فى انتظار الجعة».
• فى المحبة
لقد وصف المصريون القدماء فى أشعارهم حرارة الأشواق كما وصفوا لوعة الفراق، وشجار المحبين، فها هو الفراق يمس قلب عاشق فيلوِّن أيامه بالأسى فيقول: «حين أرى الفطائر بالسكر/ أجدها بطعم الملح/ ونبيذ الرمان/ الذى كان حلوا فى فمى/ أجده مرا كمرارة أكباد الطير/ رائحة أنفك وحدها/ هى ما تجعلنى أحيا/ ما أنا فيه/ قد يهبه آمون لأبد الآبدين»- من بردية هاريس 500.
كما وصفت الأشعار المخاطر التى تهدد الحب والمصاعب التى تقف أمام تحقق عواطف المحبين ومنها ما يأتى على لسان فتاة عبرت عن أساها وإصرارها على حبها أمام كل المصاعب فهى تقول: «لن أتركه أبدا/ حتى لو ضربونى/ أو حكموا على بقضاء يوم فى المستنقع/ أو طاردونى حتى سوريا بالهراوات/ أو حتى النوبة بجريد النخيل/ أو حتى الصحراء بالعصى/ لو طاردونى حتى ساحل البوص/ لن أحقق ما يطلبون/ لن أهجر حبيبي»- بردية هاريس 500.
ومن أعذب القصائد تلك التى أنشدتها فتاة فى جرأة معاتبة حبيبها، كاشفة عن رغبتها فيه، وأشواقها له فتقول:
«إن لم تبق معى/ لمن تهب قلبك؟/ إن لم تتمكن من احتضانى/ لو كنت ترغب فى مداعبة ساقى.. هل تمضى لأنك تذكرت الطعام؟/ أأنت عبد لأمعائك؟/ هل تتركنى من أجل ثيابك؟/ ولكن لدى هنا مفرش/ هل تمضى لأنك جائع أو عطشان؟/ التقم ثدى فهو يفيض ويتدفق من أجلك/ كله لك/ حلو.. اليوم الذى أكون فيه فى أحضانك». بردية هاريس 500.
• للعشق ربة تحميه!
وبالنقش على الأحجار، وبالصور الجدارية سجل الأجداد وقائع حياتهم اليومية، فصوروا على الأحجار أمانيهم الحبيسة ورغباتهم الدفينة: مغنيات بنهود عامرة يسترحن فى استرخاء، ويرتدين ملابس تكشف عن مفاتنهن، وصوروا حالات خاصة مثل غرف الولادة، والنساء مع الأطفال والقابلات، ونساء يلدن، وكانت صورة الإله «بِسْ» وشما على أفخاذ النساء، فهو الإله الذى كان حاميا لحياة المرأة الحميمة كما تقول «ليز مانيش» فى كتابها: «الحياة الجنسية فى مصر القديمة»، وترجمه رفعت السيد على، وتذكر الكاتبة أن المصريين القدماء حرصوا على توفير القدرة الجنسية للميت فى الحياة الأخرى، فكان لابد من إعداد المومياء بوسائل تضمن لها قدرتها الحسية فى الآخرة.
وكان للعشق ربة هى حتحور لها مقام مقدس بجنوب مصر، وكان للجنس إله هو الإله «مين»، أما زهرة اللوتس فكانت تمثل للمصريين ما تمثله ثمار الرمان لليونانيين، وما تمثله لنا الورود الحمراء فى عصرنا الحالى، كانت ثمار المندرايك رمزا للحب، وكانت جذور ذلك النبات تستعمل لإشعال الرغبة وزيادة الحيوية.
وحتى على جدران المقابر تم تخليد هذه الرغبة من خلال تصوير الزوجين على جدران المقبرة بصحبة موسيقات حتحور ربة العشق والموسيقى، ربة آلتى «السسترام»، و«المينات» وهما أداتان موسيقيتان، «السسترام» تصدر صوت خشخشة أو جلجلة، وكانت «المينات» مثل العقد أو المسبحة- ولم تكن آلة موسيقية فى حد ذاتها بل كانت تمسك من المقبض وحباتها تهتز وتتصادم، وكلتاهما فى يد الزوجين تمثلان أمنياتهما بأن ينعما بسعادة أبدية، وخصوبة، ومشاعر حسية دافئة وكانوا يضعون بعض الدمى الأنثوية على أَسِرَّة فى المقابر، دمى من الخشب أو الخزف وأحيانا من العاج، وأحيانا بلا أرجل، إلا أنها تحتوى على الأعضاء الأساسية للأنثى وتأكيد وجودها بألوان ثقيلة أو وشم، وعن طريق السحر تعود الروح إلى تلك الدمى وتدب فيهن الحياة فى المقبرة لتؤكد للميت عودته إلى الحياة وميلاده الإعجازى الجديد فى الآخرة.
• بلاد من عطور
ومن أجمل قصائد اللهفة ما نقش على رقائق الحجر الجيرى ومنها ما يوجد فى المعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة وفيها يقول العاشق: «أرى أختى قادمة/ يبتهج قلبى برؤياها/ أفتح ذراعى لاحتضانها/ وقلبى يفرح فى صدرى مثل «…..» للأبد/ لا تبتعدى/ تعالى إلىَّ سيدتى/ حين احتضنها/ وذراعاها مفتوحتان/ أشعر أنى فى بلاد من عطور/ مغمور بالأريج/ حين أُقْبلِّها وشفتاها مفتوحتان/ تسرى البهجة فى بدنى/ دون رشفة جعة».
بينما تجيبه العاشقة قائلة: «آه يا إلهى، يا زهرة لوتس/ ما أجمل أن نخرج و…./ أعشق أن أذهب معك وأستحم أمامك/ وأدعك تشاهد مفاتنى/ فى ثوب من أرق الكتان وأشفه/ مغمورة فى عطر الراتنج/ أهرع إلى الماء حتى أكون معك/ وأخرج إليك من جديد بسمكة حمراء/ بين أصابعى/ أضعها أمامك/ تعال، انظر إليَّ».
ومن أشهر قصائد الشوق للحبيبة ما كتبه «أنا كريون» الذى عاش فى القرن السادس قبل الميلاد يقول:
«وددت لو كنت مرآتك/ حتى تنظرى إليَّ دوما/ وددت لو كنت الماء الذى تغسلين به بدنك/ آه يا حبيبتى، وددت لو كنت عطر الراتنج. حتى تدهنى بى جسدك/ وددت لو كنت حزاما على صدرك/ وحبات عقد حول عنقك. وددت لو كنت نعلا حتى تخطين عليَّ».
• هى وأشجار البستان
وتجسد النصوص الشعرية الاحتفال بالجسد وعشق تفاصيل المرأة حتى فى القصائد التى تصف الطبيعة ويدور الحديث فيها بين أشجار حديقة، وهناك نص عبارة عن حوار بين أشجار فاكهة بستان يدور حول أى منهم يخدم سيدته أفضل من غيره من الأشجار، ويرجع تاريخ البردية إلى المملكة الحديثة حوالى عام 1175 قبل الميلاد وفيها:
«فتح الرمان فمه وقال: بذورى مثل أسنانها، حبوبى مثل حلمتى ثدييها/ أنا الأفضل بين أشجار البستان/ فثمارى دائمة فى كل الفصول/ الأخت تقضى اليوم مع أخيها تحت أفرعى/ يحتسون عصير الكرم ونبيذ الرمان/ ينضج/ عليهما رذاذ عطر راتنجى/ كل أشجار المرج تفنى إلا أنا/ فأنا أكمل الاثنى عشر شهرا، وأبقى/ لو يسقط زهرى ينبت غيره/ أنا الأولى فى البستان/ إلا أنهم يصنفونى الثانية/ وإن فعلوا ذلك مرة أخرى/ لن أظل صامتة عما أراه منهم/ انظروا حين أفشى أفعالهم غير الطيبة».
• أساطير الحب
ومن أشهر أساطير الحب فى مصر الفرعونية قصة إيزيس وأوزوريس اللذين كانا ثمرة الزواج بين الآلهة «نوت» آلهة السماء، والإله «جب» إله الأرض، ولقد أنجبا بنتين هما «إيزيس»، و«نفتيس»، وولدان هما: «أوزوريس»، و«ست»، وقتل إله الشر «ست» أخاه أوزوريس طمعا فى السلطة- ليلة احتفاله بعروسه إيزيس بأن اصطنع له تابوتا ذهبيا فى حفل العرس وقال إن سيهبه لمن يكون التابوت على مقاسه وعندما دخل فيه أوزوريس الطيب أغلقه عليه وألقاه فى النيل ثم مزق ست جثة أخيه عندما عثر عليه بعد ذلك إلى عدة أجزاء فذهبت إيزيس للبحث عنها فى أحراش الدلتا وجمعت أعضاءه، وعن طريق السحر حبلت منه بحورس الذى أصبح وريثا للعرش، أما أوزوريس فأصبح ملكا على أرباب العالم الآخر، وضربت إيزيس مثالا حيا على الوفاء للحب الذى جمعها بأوزوريس.
ومن الطريف أن الآلهة فى مصر الفرعونية كانت تعشق النساء من البشر، ومن أشهر قصص الحب قصة حب الإله «آمون» للملكة الجميلة «أحموزيس» ومنهما كان الحمل الربانى بالملكة حتشبسوت، وتذكر «ليز مانيش» هذه القصة فى كتابها «الحياة الجنسية فى مصر القديمة»، فتقول: «كان من المحتم على كل ملك مصرى يرتقى العرش أن يثبت أحقيته بذلك، ولو ظهر أى تشكك كان لابد من الكشف للشعب عن أسباب ذلك الاستحقاق، وطبيعة مولد من ارتقى العرش، فكان يُعلن مثلا أن الإله قد تجلى بذاته للأمير الشاب فى نومه، أو أن تمثال الإله قد أشار له بين الجموع فى المعبد أو أن الإله ذاته هو الأب المباشر للطفل الأمير، وتبنت الملكة حتشبسوت التى حكمت مصر فى الفترة من «1503 إلى 1482» قبل الميلاد التفسير الأخير والنص المفسر لطبيعة مولد الملكة حتشبسوت محفور على جدران معبدها الذى يُطلق عليه اسم الدير البحرى فى صعيد مصر، فى ذلك النص يعلن الإله «آمون» لمجمع الآلهة التاسوع عن نيته فى إنجاب ملك جديد لمصر، ويخبره «تحوت» مسجل النصوص فى مجمع الآلهة أن هناك ملكة جميلة هى «أحموزيس» تعيش فى القصر الملكى، وفى الحال أبدى «آمون» اهتماما فائقا حين سمع بجمالها إلا أن هناك مشكلة كانت تواجهه كيف يصل إلى غرفة نوم الملكة لكى ينفذ مشيئته؟» وكان الحل سهلا: تقمص الرب شخصية الملك تحتمس الأول زوج الملكة «أحموزيس»، وعلى إحدى الجداريات تم تسجيل ذلك: «وجد «آمون» الملكة فى غرف القصر الداخلية، وحين تنسمت الملكة الأريج الإلهى، استيقظت من نومها وابتسمت لمرآه، وتقدم إليها على الفور، ووهبها قلبه ومشاعره، وجعلها تراه فى صورته الإلهية الحقيقية وهو يقترب منها، وابتهجت بفحولته، وسرى فى بدنها حبه، وغمر القصر أريج الإله حتى أصبح كأرض بونت «بلاد العطور»، ثم حقق معها رغبته، وجعلته يبتهج فوقها ثم قبلته، قالت له: «ما أروع أن أراك وجها لوجه، قوتك الإلهية غمرتنى، نداؤك سرى فى كل بدنى وأطرافى، وحقق الإله رغبته معها مرة ثانية، وقال لها: «حقا، يصبح اسم الطفلة التى وضعتها فى أحشائك حتشبسوت».
• الحب ووادى الموت
ومن قصص الحب الشهيرة أو لنقل من قصص الشغف حكاية «الشقيقين» والمخطوطة والمحفوظة بالمتحف البريطانى «بردية أوربينى» وكتبت فى عهد سيتى الثانى «حوالى 1210 قبل الميلاد»، وهى قصة الشقيقين «بات» و«أنوبيس»، وقد مالت زوجة «أنوبيس» إلى أخيه وادعت أن «باتا» الشقيق الأصغر له قد أغراها وقال لها: «هيا ننام معا ساعة، رَجْلِى شعرك»، وادعت أنه ضربها وأنها قالت له: «انظر، ألست فى منزلة أمك، وأليس أخوك الأكبر بمثابة أبيك؟» واشتكته لزوجها «أنوبيس»: «ضربنى حتى لا أخبرك بما حدث لذلك لو تركته حيا سأقتل نفسى».
وغضب «أنوبيس» على أخيه وشحذ سن رمحه وتوارى خلف باب حظيرة الماشية وقد نوى أن يقتل شقيقه، ولكن بقرة قالت لراعيها باتا: «انظر، أخوك الأكبر مختبئ ورمحه فى يده ليقتلك، اهرب حالا»، ففر «باتا» هاربا وركض خلفه «أنوبيس» برمحه، وتوجه «باتا» وهو يفر إلى الإله رع قائلا: «إلهى العظيم أنت من يعرف الصادق من الكاذب» وسمع الإله تضرعه فخلق بحيرة مليئة بالتماسيح تفصل بينه وبين أخيه، وقال باتا لأخيه: «ابق مكانك حتى الصباح حيث يشرق الإله سيحكم بيننا، ويدفع بالكاذب منا إلى إله الحق، لن أحيا معك بعد الآن سأذهب إلى وادى الصنوبر، ولما كان الصبح حكى «باتا» لشقيقه حقيقة ما حدث قائلا: لقد أردت قتلى بسبب كذبة؟ ثم تناول قطعة من البوص حادة الحافة وقطع بها ذكورته وقذفها فى الماء وأكلتها الأسماك، وأصبح باتا فى غاية الضعف والبؤس، وانتحب بصوت عال، وبينه وبين أخيه بحيرة مليئة بالتماسيح الضخمة وصاح باتا: «لم تفكر إلا فى الشر، لا فى الخير، ولم تتذكر أيًا من الأعمال التى كنت أقوم بها من أجلك.. ارجع وارع ماشيتك بنفسك، لن أعود إليك أبدا، سأرحل إلى وادى الموت»، فعاد «أنوبيس» وقتل امرأته، وجلس يبكى أخاه الأصغر.
• الراعى والربة
وقد وُجِدَتْ هذه القصة على بردية موجودة الآن فى برلين تحت رقم 3024، وقد كتبت فى الفترة ما بين «1900 إلى 1800» قبل الميلاد، ولم يتبق من النص إلا خمسة وعشرين سطرا من قصة الراعى الذى ذهب ليأخذ أبقاره إلى المرعى إلا أنه فوجئ بمشهد مذهل، فيحكى لرفاقه: «لا أكاد أصدق ما حدث، حين توجهت إلى البركة التى تحد أرضى الواطئة، رأيت امرأة كانت رائعة حتى إنها لم تكن تشبه أيا من نساء البشر الفانيات، ووقف شعر رأسى من المفاجأة حين رأيت جدائل شعرها المنسدلة وقد كان لونها فى غاية النعومة، ولم أستجب لرغبتها كنت فى غاية الخوف، وحتى الراوى حَثَ الرعاة على اصطحاب قطيعه من البقر وأن يتجاهلوا ذلك ولكن حين بدأ نور الفجر يتسلل إلى الأرض، حدث ما توقعه، قابلته الربة عند حافة البركة، وخلعت ملابسها، وحلت جدائل شعرها..».
• نصوص سحرية
وقد ألقت القصص المصرية القديمة الضوء على جوانب كثيرة من الحياة الحسية فى مصر القديمة، كما أظهرت القصص، ونصوص الحكمة، وقصائد الشعر أن أفرادا كثيرين لم يكونوا سعداء فيما يتعلق بالجوانب العاطفية والحسية فى حياتهم، أحيانا كانوا يحاولون إصلاح تلك الأحوال ومنها اللجوء إلى السحر، وكانت بعض الأشكال والصور تنطوى على قوة سحرية تؤدى مفعولها فى الحياة الدنيا ويمتد أثرها إلى الحياة الأخرى، ولذلك كانت توضع مع الميت أشكال لنساء على هيئة تماثيل حتى يُبْعثن معه فى الآخرة، ويثرن فيه الرغبة الكامنة وحتى يضمن وجود نساء معه بعد بعثه فى الحياة الأخرى.
أما فى الحياة الدنيا فقد كانت هناك دائما حلول سحرية ووصفات لمن يعانى من مشاكل تختص بالجنس، وتذكر «ليز مانيش» أن الشخصيات المرموقة من المجتمع وأفراد الطبقة العليا اهتموا بتلك النصوص التى وضعوها فى أكفانهم، وورد فى أحد نصوص الأكفان «خاص بكل رجل يعرف «التركيبة» سيتمكن من النكاح على هذه الأرض ليلا ونهارا، وستهفو إليه أفئدة النساء فى أى وقت شاء».
• الطهارة فى عالم الأبدية
وقد تناول الرحالة الإغريقى هيرودت فى القرن الخامس قبل الميلاد وسجل للعالم ما عرفه عن المصريين القدماء فى عصره وعن حياتهم الحميمة فقال إن تلك الأمور كانت تتسم بالخصوصية وأنهم أول من أعتقد ضرورة أن يكون البدن طاهرا عندما يدخل المرء إلى المعابد، ويحتوى كتاب الموتى الذى كان يحرص أغلب الأثرياء على وضعه مع الميت على قائمة بالأفعال التى يقسم الميت فى الحياة الأخرى أنه لم يقترف أيًا منها، وحتى تحكم الآلهة له بالبقاء فى عالم الأبدية والخلود فى مملكة أوزوريس فإن ضميره ووازعه الدينى والأخلاقى يجعله يقف فى حضرة الآلهة ويعلن: «لم أقترف جريمة الزنى فى المعبد المقدس لإله مدينتى»- بردية نو، فصل 125- المقدمة، 12، وكان البعد الأخلاقى مهما فى حياتهم فهم الذين كان الواحد فيهم يقول: «أقسم أننى لم أسرق ولم أزن ولم ألوث ماء النهر»، وهكذا عاش أجدادنا بالحب، وبالشعر وبالرغبة، عاشوا كأنهم يعيشون أبدا، وعملوا للآخرة كأنهم سيموتون من غدهم.
عاشوا العواطف المشبوبة، بزهر اللوتس والعناق الحار، فى رعاية الربة حتحور وموسيقى «السسترام» المجلجلة وحبات «المينات» كالمسبحة، تهتز وتتصادم على أنغام قصائد حلوة، حافلة بعشق الحياة.
«جعة وأرغفة خبز/ أعشاب وزهور من الأمس واليوم/ وكل أنواع الفواكه اللذيذة/ هيا، اقض اليوم فى سعادة/ يوم بعد يوم/ ربما ثلاثة/ اجلسى فى ظلالى وحبيبك إلى يمينك».
فلنذق معهم طعم الحياة التى أخلصوا لها حتى الموت!
* روزاليوسف