كتاب الألعاب.. قصيدة متكئة على ذراع طفل


*طارق إمام


(1)
من أدبيات السرد، تلتقط الشاعرة المصرية «رنا التونسي» في مجموعتها الشعرية الأحدث «كتاب الألعاب» (دار شرقيات، القاهرة 2015)، لعبة «الثلاثي الدرامي» ليتنقل الصوت الشعري (أو ليتوزع)، على أضلعٍ ثلاثة يتخبط بينها العالم. من اللحظة الأولى، ثمة امرأة/‏‏ أم، طفل/‏‏ ابن، ورجل/‏‏ عاشق. نحن أمام «أدوار» أو «وظائف» للذوات الشعرية تجعلنا في القلب من صراع ما، والصراع، بدوره، أحد شروط النص النص السردي. لكن الصراع الذي يتقدم في النص السردي بالحدث، يقف هنا، حيث الشعر، عند حدود التأمل، فلا تتقدم الذات الشاعرة باتجاه حسمه لصالح أحد الطرفين، بل تثبته في لحظات توهجه لتتأمله في بعده المجرد.
ثالوث أليف جرى نزع مألوفيته بتحريف جوهري في طبيعة أحد أضلعه، ليحل «الابن» هذه المرة محل «الزوج»، أو الرجل «المُبيَّت» محل الرجل «الذكرى». إنه، ذلك التحريف، ما يمنح هذه التجربة عنصرها الفعال، خاصةً عندما يصير الطفل محور العالم ومحركه العميق.
ثمة، للسبب نفسه، تقاطع بين عالمين يعكس كل منهما قيمة شعرية: عالم النضج الكنائي، وعالم الطفولة الاستعاري. فثمة صراع بين الواقع بقيمه التي تُعلي من شأن المعقول والمحاكاة، والتخييل القائم على العلاقات اللاسببية ناقضاً العلاقات الأيقونية بين الأشياء وإحالاتها الجاهزة، وهي في الأخير المفارقة بين وعي النضوج (الأم) والوعي الغفل (الطفل). الجدل القادم لن يكون فحسب جدل أصوات، بل جدل طرائق فنية تعمل كل منها بطريقة خاصة في تشكيل الخطاب الشعري.
وعبر جناحي التجربة، أو قصيدتيها الطويلتين المجزأتين إلى مقاطع متلاحقة غير مرقمة، تتوتر الدراما تحت جلد الشعر، بضمير المخاطب على الأغلب، كأن القصيدة برمتها اعتراف أو رسالة. تكتب رنا التونسي أغلب نصوصها في مقاطع قصيرة، تلتم كحفنات متتالية تحت عنوان كبير، لذلك فالوقفات (أو الفواصل) تلعب دوراً محورياً في ايجاد الإيقاع الأشمل لفعل القراءة.
(2)
ينفتح النص على قصيدتين، البطل فيهما فعل التدوين. بين «كتاب الألعاب» عنوان القصيدة الأولى، و«الرسائل» عنوان القصيدة الثانية، يتحقق شكلان البطل فيهما هو الكتابة نفسها، وسؤال «الاتصال» هدفهما.
لكن «الكتاب» يختلف عن «الرسالة» في عنصر جوهري، فبينما تبقى الرسالة مرهونة بآنيتها، كنصٍ لحظي مشروط بالإخبار، فإن الكتاب لا يخشى الزمن، لا يخشى وصوله متأخراً. لا يلهث الكتاب للإخبار بالحاضر، بل إن الكتاب، كعلامة ضد الزمن، تكمن إحدى غاياته بالأساس في دحض الزمن سواء بقدرته على عبور الزمن أو بإمكانية قراءته في غير زمنه، وبالصمود في الزمن عند انتفاء منتجه. الرسالة تموت بموت منتجها، كما تفقد مغزاها إن وصلت لمتلقٍ آخر غير التي كتبت من أجله. في الحقيقة، الرسالة في هذه الحالة قد تتحول إلى شفرة، كونها نصاً مبنياً على التواطؤ. الكتاب أيضاً لا يملك متلقياً بعينه، بينما الرسالة ذاهبة لشخص محدد. هذا بالضبط هو في ظني الفارق بين نصي المجموعة، وهو ما يجعلهما مكملين لبعضهما البعض: ثمة نص مدخر للزمن، وآخر يجب أن يُقرأ الآن. وهو ما يجعل الأفق الخفي للنص الأول «أنا وأنتم» بينما في النص الثاني «أنا وأنت». في النص الأول ثمة أم وطفل هما جزء من العالم، بينما في النص الثاني هناك أم وطفل هما العالم.
(3)
ينفتح النص الأول، «كتاب الألعاب»، على صيغة آمرة ترسم شكل العلاقات القادمة، مثلما تداعب الخبرة المشتركة لدى المتلقي في علاقة السلطة الأمومية (الآمرة) بالكيان الطفولي: «عندما يرن جرس الباب/‏‏ لا تفتح/‏‏ لا تجب على الهاتف/‏‏ ربما كان هناك عاشق في انتظاري». يكشف عن طبيعة الذات الشاعرة، التي لا تقيم تصالحاً بين الطفل/‏‏ الرجل، بل تؤكد على استحالة تلاقيهما، فكل منهما يلتقط طرفاً. يوحي هذا النص الافتتاحي بأن ثمة اختيار محسوم. «الابن» هو الداخل، والعاشق هو القادم من العالم الخارجي عبر «الباب» أو «الهاتف». لكن ذلك التنبيه ما يلبث أن يتقوض، نصاً بعد الآخر، حتى ينتهي النص وقد حسم الاختيار في صيغته العكسية: «عندما قابلتك/‏‏ أحسست أنني ممكنة/‏‏ أنه يمكنني فعلاً الوقوف الآن/‏‏ أن أفتح الباب/‏‏ وأصحو». بين القرارين المتناقضين ينهض سيل من القصائد القصيرة، يهيمن فيها صوت «الأنا» وهي تتملى شعرياً تأرجحا بين طرفي العالم: الطفل/‏‏ العاشق. في لحظة يحتمل الطفل الدورين معاً، حيث لن يتخلى عنهما أبداً: «بإمكاني أن أحمل شجرة في البيت/‏‏ /‏‏ ألمُّ بيدي ضوءاً تكسر/‏‏ أقرأ لك أول قصيدة تكتبها/‏‏ وآخر قصيدة تجمعنا/‏‏ عشيقين../‏‏ في حديقة سرية».
إنها «ذروة شعرية» لو جاز التعبير، تتاخمها ذروة أخرى، عندما يقبض الطفل على منصة القول الشعري، لتتحقق القصيدة بصوته، وليظهر كـ«أنا» شريكة في إنتاج الخطاب الشعري: «أنا الطفل الصغير في المقهى/‏‏ درجة السلّم الناقصة/‏‏ الخيال الذي يسلم عليك/‏‏ والنشاز في العائلة».
على جانب آخر، يمثل هذا المقطع نصاً شعرياً «تعريفياً» للذات التي تتولى إنتاجه. لنتأمل قليلاً الدوال المرتبطة بتكوين الطفل (من وجهة نظره): الخيال (عوضاً عن الواقع)، النقص (عوضاً عن الكمال)، النشاز (عوضاً عن الانسجام). ولنتأمل بالمقابل الدوال الرئيسية المرتبطة بعالم الأم، عبر قصيدة تلي فوراً القصيدة السابقة، وكأنها تنهض في مقابلها:«عندما يتحدث الآخرون عن الذكريات أبتعد/‏‏ عن الحب أجزع/‏‏ عن الحدائق أرتعب». نحن أمام ذات مبتعدة/‏‏ انسحابية، جازعة خائفة/‏‏ مرتعبة. لنلحظ العلاقة المتوترة بين الطفل والأم فيما يخص العالم الخارجي، الذي يمثله المقهى، السلم، العائلة، و«الآخرون» إجمالاً بالنسبة للأم. كلا الابن والأم يقدمان نفسيهما في ظل دلالات «سلبية»، لو اعتمدنا ثنائية إيجابي/‏‏ سلبي الجاهزة، وهما لذلك يبدوان لدى اتحادهما قادرين على الوصول للجانب الآخر: لعالم كامل، منسجم، متخلص من الانسحاب والجزع والارتعاد: «كان الغرباء يسكنون عظامي/‏‏ وكنت أحبك،/‏‏ محبة الناجية من الموت/‏‏ المستيقظة لتعشق/‏‏ كل يوم كأنه أول يوم».
سيُختَصر العالم، في النص الثاني «الرسائل» إلى أنا/‏‏ أنت، كأن الوجود الخارجي قد تقلص لحده الأدني من الحضور، حد الانتفاء: «أنت قارب النجاة إلى الجانب الآخر/‏‏ حين لا يكون هناك جانب آخر».
«أنا وأنت نتعذب باستمرار/‏‏ ولا نريد أن ينقذنا أحد/‏‏ كأغنية حب طويلة/‏‏ عن الوحدة». في هذا النص يهيمن ضمير المخاطب (في محاكاة لصيغة الرسالة) مطعماً بالضمير الجمعي «نحن» الذي يلخص الصوت المشترك أنا/‏‏ أنت. في هذا النص الثاني، يتحول الابن إلى متلقٍ مطلق/‏‏ وحيد لخطاب الأم، تخاطبه الذات الشاعرة بـ«يا صديقي». ثمة قفزة زمنية بين النصين الأول والثاني، ففي الثاني يبدو الطفل وقد صار الصديق، الرجل الموشك، وبالأخص، الشخص القادر على قراءة رسالة موجهة له. إنه يحل محل العالم، وقد انتقل بدوره من دور «المحبوب» لدور «الحبيب»، بكل ما يمثله ذلك من تمثُّل للثقافة: «تصعد البنايات المهدّمة إلى الشرفة/‏‏ وتنظر طويلاً/‏‏ إلى حبيبين مهددين مثلنا/‏‏ حبيبين وحيدين». في سياق كهذا، سيكون من الملائم، وللمرة الأولى، أن تفوح من الرسالة رائحة «الأنثى» التي ظلت طوال الوقت قابعة خلف دور «الأم»: «سأكتب لك/‏‏ رسالة مفتوحة الأزرار».
الانتقال من النص الأول للنص الثاني هو انتقال من المأزق إلى الكشف، وبينما يحضر الطفل في النص الأول في ظل الأم، فإنه في النص الثاني يتبادل الأدوار، بحيث تبدو (هي التي تمارس فعل الكتابة عبر رسالة طويلة) قابعة في ظله الآخذ في التمدد. وبينما يطرح النص الأول أسئلة ماضوية تحتل فيها الذاكرة دوراً محورياً، يبدو النص الثاني مستقبلياً استشرافياً: «الأيام كلها/‏‏ سلالم تجر خطوتي نحوك».
ثمة دوال بعينها يتكئ عليها المعجم الشعري هنا أكثر من غيرها، دوال تختصر العالم وتحل باعتبارها صوراً له، وبخاصة الشجر، السيارة/‏‏ العربة/‏‏ القطار، والطريق. الشجرة، بداءةً، دال متكرر، وهو يُستحضر دائماً في أفق مناقض للدلالات المرتبطة به، فالشجرة في المعجم الاتفاقي هي الثبات والرسوخ، هي التشبث بالمكان، هي مانحة الظل، هي الكائن الحي غير الناطق، لكنها هنا تُختبر مرة بعد أخرى في آفاق دلالية مناقضة للمتفق عليه: «لأننا شجر بعيد عن الأرض»، «عليك أن تضرب الأشجار الوحيدة بالهراوات/‏‏ أن تختبئ منها في ليل الطريق»، «ذات مرة تشاجرت مع رجل/‏‏ لأني أردت أن تلمس المياه أصابعي/‏‏ ومرة أخرى لأني تكلمت كالأشجار»، «بإمكاني أن أحمل شجرة في البيت»، «تكلمت كالأشجار». إنها أيضاً شجرة الحياة التي تحضر الذات الشاعرة تحتها. مقابل ذلك تنهض رغبة الذات في التحول إلى شجرة: :أحتاج أن أقف مرة وحيدة إلى الأرض/‏‏ ولا أستند إلى الغياب». وبنفس القدر من قلب الطاولة على المداليل الاتفاقية للشجرة، وهي عنصر «طبيعي»، يجري الشيء نفسه مع وسائط الانتقال، وهي من منجزات الثقافة، هي قيم حركة وانتقال من نقطة لتاليتها، والأهم، اتصالها بفكرة «الوصول»، غير أنها هنا تغدو دالة على التيه والضياع: «ألحق بقطار لا تقابله اللهفة»، وهناك الطريق، وهو دال مرتبط بالمستقبل كونه يتحرك بالذات الإنسانية للأمام، يغدو هنا دالاً على الالتفات للخلف، فهو مرتبط بالماضي أكثر مما هو منفتح على المستقبل: «كل طريق صديق قديم/‏‏ لا نقوى أن نفارقه». وحده البيت (وهو دال يحيل للداخل غير أنه أيضاً ينفتح على الخارج، فهو وسيط مزدوج) ينتصر في النهاية ببعده الداخلي، كونه يتحول في الحقيقة لـ«جسد» أشمل، قادر على تحويل ذاتين، في نهاية الرحلة، لذات متوحدة.
____
*جريدة عًمان

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *