نبيل عبد الكريم *
( ثقافات )
ثلاث قصص قصيرة
( طفل الحليب)
اتكأت الأم بظهرها على مسند السرير وأغمضت عينيها، لم ترتخِ ذراعاها اللتان تحيطان بجسد طفلها وتضمانه إلى صدرها العاري، لكنهما تحوّلتا إلى غصنين طويلين ناشفين . استمرّ الطفل يرضع حتى غدا الحليب بارداً، فأشاح بوجهه وأخذ بالبكاء . هرع أبوه وجدته وعمته وبذلوا جهداً كبيراً لتخليصه من حضن الشجرة الميتة .
رفضت مرضعات العائلة تلقيم أثدائهن للطفل الذي رضع حليب عزرائيل، وتهرّبن من النظر إلى عيني الأب الحائر . صارت الجدّة تضمّه إلى صدرها فيفتش بيديه الصغيرتين عن الضرع المكتنز فلا يجد غير بالون مفرغ من الهواء .
ظلت العمة تقدم له رضعات الحليب الصناعي إلى أن حنّت عليه أم مات وليدها فاتخذته ولداً . ظل الطفل متعلقاً بثديي مرضعته حتى قال لها أبوه:
– يكفي، لقد سجلته في الروضة .
يعود من الروضة بعد الظهر، يرمي الحقيبة على الأرض فتقع منها الوجبة التي أعدّتها له في الصباح كما هي لم يأكل منها شيئاً، يقفز إلى حضنها ويعريّ صدرها و يحشو حلمتها بين شفتيه الجائعتين . لم تعد ساقاها النحيلتان تحتملان وزنه الثقيل، ولا صدرها الذي نتأت عظامه رأسَه الكبير، ولا ضرعاها المترهلان نهمَه الشديد، وازرقّت حلمتاها والتهبتا ونزتّ منهما الدماء . فتح عينيه المغمضتين وكفّ عن الشرب وسألها وآثار دمائها على شفتيه:
– أمي، ما هذه العلامة على جبينك؟
مسحت جبينها بكفها وقالت وهي تنعم النظر في أطراف أصابعها:
– أي علامة؟
– هذه التي تشبه العلامة التي ترسمها المعلمة على دفتري عندما تغضب مني .
عاد ابن عزرائيل إلى بيت أبيه بعد أن ماتت مرضعته، وصار يأكل كلّ ما يوضع أمامه من طعام طالباً المزيد، ومن يره لا يصدق أن هذا الجسد الضخم هو لطفل في الخامسة من عمره . احتضنته جدته وشاركته فرشتها، يدفن وجهه في صدرها فيشتمّ رائحة نباتية لا تعجبه، وحين تستيقظ في الفجر تجده قد اندسّ في فراش عمّته .
– متى تتزوج عمتي . يسأل جدته فتجيبه:
– عمتك ما زالت طالبة، ستتزوج بعد أن تتخرج من الجامعة .
– وهل ستعيشين حتى تتخرج . يسألها وهو يحدّق في العلامة الغائرة في جبينها .
استيقظت الشابة في الفجر على نطحة قوية من الرأس الكبير في صدرها، فقالت بعد أن دفعته بيدها:
– ارجع إلى فرشة جدتك ولا تزعجني .
– جدتي فرشتها باردة . قال وهو يلتمس الدفء في حضن عمته .
رفعت العمة رأسها فرأت وجه أمها مثل قطعة من البلاستيك، فاحتضنت الرأس الكبير وأجهشت بالبكاء .
بعد وفاة الجدة صار منامه الدائم في حضن العمة، يتشمّم صدرها ويحدق في جبينها كلّ ليلة وهي غافية . أنهت العمة دراستها وتوظفت فى شركة ذات ساعات عمل طويلة .
– عمتي، متى ستضعين طفلك؟ سألها من تحت الغطاء الثقيل، ارتبكت وتلعثمت قائلة:
– كيف سيكون عندي طفل ولم أتزوج بعد؟ وأتبعت قولها بضحكة بلهاء .
– ولكني أشمّ رائحة حليب في صدرك .
انتفضت الشابة وأزاحت الغطاء بيديها وقدميها ونظرت إليه بعينين مذهولتين ثم تمالكت نفسها وقالت متوسلة:
– إياك أن تكرر هذا الكلام أمام جدك .
– لن أخبر أحداً، أقسم على ذلك، أنا فقط أنتظر الحليب .
( بطّانية مزركشة )
آخر عشر سنوات من عمر جدتي هي أول عشر سنوات من عمري، خلالها لم أشاهدها تغادر بطّانيتها المرقعة طول النهار، تجلس فوقها بوجهها المستدير وعينيها الصغيرتين من دون عمود فقري ولا ساقين، لا يتحرك فيها غير لسانها وأطراف أصابعها . أدخل غرفتها كل صباح لأروي لها الحلم الذي رأيته فتسألني:
– أين ستجلس اليوم؟
أمرر نظري محتاراً على اللوحة القماشية المزركشة ثم أختار رقعة وأتربّع فوقها .
– اللون الأصفر، تهزّ جدتي رأسها وتضيف:
– إذن ستحكي لي حكاية (بنات حَبّ الرمان) .
أحكي لها الحكاية، وقبل أن أمضي أرى جسدها أصغر وبطانيتها أكبر، إلى أن جاء صباح رأيت فيه أمي واقفة وسط البطانية فوق الحكاية السوداء . فتحت أمي خزانة جدتي المتهالكة وأخذت ترمي خِلَقها وأثوابها فوق البطانية، ثم جمعت أطرافها وعقدتها حول الكومة، ثم طلبت مني أن أحمل الصرّة الصغيرة إلى الخارج
– ضعها بجانب الحاوية، فقد يأخذها شخص فينتفع بها فتكون صدقة عن روحها .
أفرغتُ البطانية من محتوياتها ولففت جسدي بها فنبت لي جناحان وارتفعت قدماي عن الأرض . حملتُ البطانية وفردّتها فوق فراشي، وفي الليل دخلت غرفتها فرأيتها شابة تقف فوق بطانيتها وساقاها متباعدتان كأنها تمتطي فرساً على أهبة الانطلاق، أما البطانية فانتظمت ألوانها وامتدّت مستقيمة كقوس قزح .
وما زالت حتى اليوم استيقظ كل صباح لأروي حكاية جديدة .
( الطائر حسن )
يذهب الطالب حسن إلى المدرسة كل صباح، لا يحمل في حقيبته القماشية غير كرة فارغة من الهواء، يجلس في المقعد الأخير من الغرفة الصفية الضيقة، في الزاوية، ينتظر بفارغ الصبر جرس التّرويحة .
يتكون الطالب حسن من طبقتين، برّانية تتلقى الصفعات والجلدات من المعلمين، وجوّانية تحلم بالمباراة القادمة بعد انتهاء الحصة السادسة .
سبعة أولاد يغادرون المدرسة ظهراً يتقدمهم الكابتن حسن، يعرّجون على مطعم ( أبو ماهر ) ليشتروا الساندويتشات . كل ساندويتشة تتكون من طبقتين، برانية طرية دافئة، وجوانية رقيقة من الحمص والفلافل .
بعد الأكل يدبّ النشاط في ساقي حسن النحيلتين فيبدأ بركل أصحابه والقفز فوق ظهورهم، وخلال ذلك يقوم برسم خطة اللعب وتوزيعهم على المراكز .
تتكون كرة حسن من طبقتين، برانية سميكة جوفاء، وجوانية محشوّة بالأهداف التي ينوي تسجيلها، يملؤها خلال الحصص بواسطة منفاخ يدوي يتناوب عليه المعلمون فتكتسب الكرة استدارتها وصلابتها وتغدو جاهزة للركل والنطح .
خلال المباراة تتشقق الطبقتان الخارجيتان اللتان تغلفان حسن وكرته، هو يتحول إلى طائر لا يهدأ، يبسط جناحيه كلما سجل هدفاً، ويتمايل مثل صقر فوق الملعب، وهي تتحول إلى سرب من الأرانب المذعورة تهرب نحو المرمى لتختبئ فيه
* الخليج الثقافي