مارسيل خليفة: من أين هذا السلام؟


*لوركا سبيتي


عاش بين الأصوات مذ وعى نشأته الفقيرة في عمشيت الجميلة، بين أم تعهدته وتعهدت موهبته حتى وفاتها وأب زاول كل المهن ليعيل عائلته، وهو هل هو شاب أم كهل؟ عبثي أم أنيق، هل يغني ويلحن أم ينقل رسالته إلى الوجود.
– لم يكن من السهل على طفل صغير يعيش في قرية نائية وينتمي لعائلة فقيرة ان يصبح مؤلفا موسيقيا، ولكن كان مؤكدا انه سيصير. كل حركاته وسكناته تدل على ذلك. وكل احاديثه الفطرية الطفولية تدور حول ذاك الهائل الذي قالوا له لاحقا بأنه «الموسيقى». وكل الاشياء التي يصلها تتحول بين كفيه ووسط خيالاته آلات موسيقية.. الصحون والطناجر والملاعق وعلب الحليب الفارغة وقصب الغزّار اليابس.. وعى صغيرنا الأصوات باكرا، رآها في حلمه وفي اليقظة، لامسها كما يلامس صخور البرية التي تعوّد الركون اليها يستمع عندها الى الطبيعة، ركض خلف صداها كأنها كرته السحرية وفتش عن صمتها كغزال يفتش عن العشب.. رآها في النهر وفي البحر وبين النجوم وفي الساحات.. وكان صغيرنا يستأنس للأصوات مهما اختلف شكلها علت او انخفضت، صدحت او صمتت، رقَّت او تكاثفت، كانت تعنيه. يتأمل فيها ويذهب معها الى اماكن خضراء رحبة ومضيئة لا تشبه بيته المتواضع، ولا تعب أبيه وكدّه ولا وجع امه واحتمال موتها. لم يكن يحلم بامتلاك لعبة كما كل الأطفال، لا كرة ولا دراجة ولا مراجيح، كل ما هنالك ان حلمه كان كائنا خشبيا مجوفا له وجه وصدر ورقبة وأنف وأوتار ومفاتيح وله اسم: «العود»..
ولكن، مهلا، من اكتشف ان هذا الطفل ليس عاديا؟ ومن باح له بكل ما كتبتُه عنه في المقطع الاول؟ انها «ماتيلدا» التي احبته قليلا كثيرا، وانتبهت لموهبته قليلا كثيرا، وتحمّلت إزعاج الأصوات الأولى التي كانت تصدر من مطبخها لا بل وكانت تصلها عزفا متقنا.. ولولا حدسها به وبآتيه لكان بقي مجرد طفل لا يد له تلامس اطراف السماء ولا جيب يواري فيه فرحه ولا مارد يحقق له حلمه ولما كان ما كان.. وماتيلدا أمرأته الاولى، امه، التي فرحت بخبر قبول ولدها في المعهد الموسيقي، واقنعت والده بضرورة تعلم الصغير على العزف، والتي كانت تسطّر له على الورق الأبيض خطوطاً دقيقة ليكتب عليها النوتات، والتي تحملت عناء مرافقته الى المعهد اسبوعيا، وهي ما زالت مسؤولة عن عائلة كبيرة ومنزل وزواج، بعد ان اطمأنت عليه وادخرت من المال القليل قليله لتشتري لابنها «العود» الذي لطالما رغب باقتنائه، مرضت وماتت قبل ان تسمع حتى أغنية واحدة، رحلت ماتيلدا وهي في «كامل مشمشها».. هل موتها جعل منه هذا الموسيقي الجديّ الخلاّق الباحث عن معنى جديد للحقيقة، ام حياتها؟؟ قبَّل الفتى الحزين المحيّا، جبينها البارد ووعدها بأنها لن تموت أبدا طالما هو حي، لا يريد تصديق ان الأم تموت، وان الحياة تنتهي، ثلًج صورتها في رأسه، خبزها وقهوتها ولمستها، ولم يذوبها الى الآن، غنّى لها وبها عن الوطن والناس والحبيبة والغياب، فكانت تنبثق من قلب أغنياته، مهما اختلفت مواضيعها، كقديسة تحوم حول أحزان القصيدة لتواسي سكانها.
عمشيت
«عمشيت» القرية الجميلة التي تلامس اطرافها البحر، ويتوسد شمالها شجر الأرز، والتي وهبت «مارسيل خليفة» منذ تفتح وعيه على الحياة، الأصوات، فأحاطته بها، طلعت من كل الزوايا وسكنت فيه: صوت الصيادين العائدين من حقول الماء يغنون للبحر وللأرزاق، صوت التراتيل في كنيسة القرية التي زارها مع امه وجدّته «مريم»، صوت آذان الجامع، صوت الطبيعة بحفيفها وخريرها وزقزقتها.. وفي «عمشيت» صادق مارسيل الصوت وصمته كما يصادق الناس قلقهم او وجعهم والفرح.. وتمسك بصداقته هذه كأنها زاف امه اذا افلته يضيع، كما الناس تتمسك بلحظات فرحها العابرة لئلا تصبح لا شيئا او شيئا شفافا حدّ الإمّحاء. هذه الصداقة أعطته بعضا من ذاتها من امانها ومن خيالها. تلك الأحاسيس، تعطينا سببا كي نوجد، وسببا نفسر به سلوكنا ونفهم دوافعه، تدلنا على ذاكرتنا وتفتح صناديقها التي اعتدنا إقفالها.. كما ستفتح الألحان أقفال حواس مبدعنا بعد زمن ليس ببعيد.. ومارسيل مهما علا وحلًق وتمجد اسمه يعود اليها، الى التراب، الى الرحم الأول، الى بساطة الأشياء الأولى ووهجها، الى سكون الولادة، يبحث فيها عن الهدوء والطمأنينة بعيدا عن صخب العالم ورصاصه الطائش ومآسيه التي لا تنتهي. ولكن رغم حضورها فيه لا اظن ان مارسيل نسي او كاد ان قريته هذه قست عليه حين اقصته عنها تسعة عشر عاما. ما لا تموت ليست القسوة بل مكانها حين تموت، ما لا يموت ليس الخذلان بل مكانه حين يموت. ولكني متأكدة بأن الموسيقى مطهر للآلام كما للذنوب. هل التأمت جراح المنفى مارسيل؟ والذنوب التي تجسدت في أبهى الصور، في الطلقة في الثورة وفي الأغاني، هل تتحسسها، ام ان الموسيقى ايضا مطهر للذكريات؟
عمل ابو مارسيل في اكثر من مهنة، فكان شمّاسا وخياطا وسائق تاكسي.لا ينسى عازفنا وجه والده الكادح بتجاعيده الرافضة وإصراره بتحقيق حياة أفضل لعائلته هو الذي انتظر كل خميس من كل اسبوع نتائج جائزة اليانصيب وهو يضع المخططات ويرسم المشاريع ويشتري للبيت راديو وتلفازا وللأطفال العابا وللزوجة فستانا. لم يفقد الأب الأمل أبدا، بأن الآتي أفضل، وحتى حين عاش الفصول جميعها وقلب الصفحات وعدّ الأيام والساعات منتظرا ابنه ليعود من المنفى، بقي قويا بما فيه الكفاية ليشابهه ابنه فيطمئن عليه. كيف ينسى مارسيل من وما كان سبيله الى الرفض والتمرد والثورة.
ذهب مارسيل الى يسار الحياة، فاعتنق الفكر اليساري بداية من دون ان يقرر ذلك، هو شعر بالمظلومية ولم يكن شعوره هذا واعيا ولا شخصيا بحتا بل عام تحسسه في البدء اتجاه فقراء القرية ومحتاجيها وقد كان منهم من ثم تحسسه حين دافع عن زملائه المنبوذين في المدرسة، وبلغ الشعور اقصاه في السادسة عشر من عمره حين كان ينزل الى بيروت مرتين في الأسبوع ليدرس الموسيقى في معهدها، آلمته مشاهد بيوت الصفيح عند مداخل المدينة وفي ضواحيها وتعرّف حينها على المخيمات الفلسطينيّة وبدأ يعي قضية لم يكن قد سمع شيئاً عنها من قبل، قضية فلسطين. التي احتلت في الزمن الآتي مواضيع اغنياته. من هنا بدأ الشاب الثائر يراقب ما يحدث على أرض الوطن من قضايا اجتماعية وسياسية، وجّه نظره وألحانه نحو الجنوب.. بعد ان توالت المشاهد المؤلمة والمستفزة: إطلاق الرصاص على مظاهرة عمَّال التبغ واستشهاد المزارع حسن الحايك، فكانت اغنية «يا حادي العيس» للشاعر شوقي بزيع.. عمليّة «بنك أوف أميركا» حين اقتحمت السلطة اللبنانية البنك واستشهد «علي شعيب» ورفاقه فكانت اغنية «يا عليّ» للشاعر عباس بيضون.. يكمل المشهد الدموي قسوته في مظاهرة صيادي السمك في مدينة صيدا واستشهاد «معروف سعد» فكانت اغنية «يا بحرية هيلا هيلا».. لا مجال لسرد قصص اغاني «مارسيل خليفة» جميعها، فلكل منها حكاية حفظناها ورددناها، معها تفتّح وعينا على قضايا الانسان، ورفضنا بها الظلم والاستبداد، وعينا حبنا لأمهاتنا واشتقنا لهنّ وهنّ بجانبنا، مشينا بنضالنا منتصبي القامة مرفوعي الهامة، اسقطنا جواز السفر، لم نعد نخاف الكفن الذي لوَنه بالأبيض وبالأحمر وبالأخضر وبالأسود، وقدّسنا الشهادة، حين غنى وتغنى بالشهداء..
يحمل مارسيل كوب الشاي الذهبي الممزوج مع الكونياك، يرفعه اتجاه الضوء الآتي من النافذة، يخفت الضوء عند انعكاسه في حدقتيه، سكون يطغى على المكان المليء بالناس، نحن في مقهى، انه هدوء حديثه، ينتشر كالوباء، شعور يسقط عليك حين تسمعه يتكلم، يبعث على النعاس ولكن لا تنام، فقط كأنك تثمل.. تنتشي.. تخاله مترددا حيال الأمور على الرغم من شدّة دقته.. ملامحه قاسية وطرية في آن، متجهمة ومبتسمة معا، تحتار ايهما هو شاب ام كهل، عبثي ام أنيق، فقير ام غني. يبين في شرود ولكنه يقصد كل كلمة يقول، يشعرك بأنك شفاف يبين منك حتى النبض.. اتساءل في سرّي من اين لهذا الرجل كل هذه الطمأنينة؟ الهدوء؟ السكون؟ السلام؟.. كيف يشعر بعد هذا العمر الطويل الكثيف الكثير الأحداث والحروب والجراح؟ هل ينام جيدا؟ بماذا يحلم؟ ومرآته هل علق شيئا من الماضي عليها؟ ماذا يقول للشهداء الذين ذهبوا تحت قوس اغنياته الى النوم ولم يصحوا؟ ماذا يقول لأم الشهيد، لأجمل الأمهات التي ما زالت تنتظر ابنها؟ ماذا يقول لأحمد العربي؟ لجفرا؟ وللأطفال المنتظرين العيد ولا يأتي، وللرجال الباحثين عن ماهية، المتخبطين حول معنى الحرية. وللنساء المتعبات المثقلات بالانتظار؟ وللذي ظل يسأل عشرين عاما يريد هوية؟.. هل ما زال يؤمن بالطلقة في صدر الفاشستي؟.
لولا ذهبتُ بعيدا عن ذاك الآتي من الحقل ومن الشمس ومن آلام شعبه، كنت اود ان اسأله: هل هذا البلد وتلك البلاد تستحق كل هذا الموت؟
____
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *