طفل السحاب




*ماري لوكليزيو/ ترجمة عن الفرنسية : د محمد قصيبات


خاص ( ثقافات )
أريد أن أتكلم بعيداً، وطويلاً.
أريد أن أتكلم بكلماتٍ ليست مجرد كلمات، بل كلمات تحمل المرء إلى السماءِ، وإلى الكونِ، وإلى البحر.
ولكن كيف سأتكلم؟ فكلمات تلك الموسيقى تأتي من عالم لا لغة فيه، أو ربما تظل اللغةُ في ذلك العالم معقودةً في الأشياء، ثابتةً، وسجينةً في ذاتها حتى تصبح كالضوءِ لا تراه إلا من الخارج. وأنا ما زلت أنتظر الفرصةَ للحديث، ما زلت أنتظر وسيلةً للكلام. سوف يحدث ذلك، أو ربما حدث، ربما.
على حافة السحابِ، يجلس الطفلٌ كأنه على تل من الرمل، يجلس ويحدّق في الكون.
أرى جسده ثابتاً، جالساً، يداه تمسكان بركبتيه، ورأسه يميل إلى اليمينِ وإلى الشمالِ، عيناه واسعتان… إنه يحدق في الفضاء.
إنه يجلس في السماء، وكأنه على كثبٍ رمليٍّ، أمام البحرِ، أمام الفضاءِ، إنه ينظر.
من هو الطفل؟
لا أعرف بعد، فهو لا أسم له، بل لعله لم يولد بعد.
وجهُه آيةٌ في الجمالِ، هادئ ورقيقٌ، عيناه سوداوان، وعميقتان، تحوط بهما رموشٌ داكنة…عينان براقتان في هدوء ودعة، فيهما بريقٌ غريبٌ يحرك الريحَ التي تهتز فوق الأرض.
ليس للطفل اسمٌ بعد، وقد لا يكون له اسم أبداً، ربما ولد الطفلُ مع الموسيقى ذات يوم…موسيقى الكلمات.
إنه طفلٌ غريبٌ، طفلٌ ليس لأحد.
ليس هو بضائع، ولا يتيماً، ولا هارباً ولا بمسكين، ولكنه هو هكذا، يجلس فوق السحابِ، عندما نحتاجه فإنه ينساق مع التيارِ إلى جزيرته التي هي في شكلِ السحابِ، يذهب هكذا أمام أعيننا المذهولة.
إنه طفل لا يراه الجميع، ولكن ذلك لا يهم، فالذين يريدون رؤيته يرونه، هؤلاء عندما يرونه لا يجرون إلى آلات التصوير ولا إلى كاميرات الفيديو ولا إلى مكبرات الرؤية، فقط قد يسألون:
” هل رأيتموه؟”
” من؟”
” إنه طفلٌ مجهول الهوية”
هذا كل ما يقولون، ثم ينظرون إلى الطفل الذي يحدق في اتجاههم، من أعلى سحابته التي مثل الكثيب الرمليّ. إنه ينظر بعينيه السوداوين البراقتين اللتين هما مثل نجمتين، غامقتين ودافئتين في عمقِ السماء.
نحن لا ندري فيما يحدق، لعله ينظر إلينا، وإلى الأشياء المحيطة بنا على هذه الأرض، وإلى مدننا، وطرقاتنا، وبيوتنا.
إنه لا يتحرك، يتنفس ببطء، وهو يجلس ممسكاً بركبتيه ورأسه، يميل تارة إلى اليسارِ وتارة إلى اليمينِ لأن رأسه ثقيل فوق عنقه الرقيق.
أريد أن أقول لكم، من الآن، كيف هي ابتسامته، لأن هذا الطفل الغريب لا يبقى على السحابِ طويلاً، فهو سوف يختفي بعد ثوان، ومن يدري متى سيعود؟
إن رسم ابتسامته هو الذي جميل ورقيق وخفيف فوق ثنايا وزوايا شفتيه، أما ابتسامته فلا تعني شيئاً، لكنها تزيد من براقةِ عينيه السوداوين. نحن نستطيع أن نرى الطفل ساعات وساعات، أعني حتى بعد أن يختفي، فهو يظل في السماء، يظل في جانبِ السحبِ، ويطلع في الضوءِ مثل قوس قزح، إن ابتسامته توّلد الكثير من الكلمات، والكثير من الموسيقى.
الذين رأوه يقولون :
” سوف أعطي كل ما أملك من أجل أن أرى ابتسامته”
لعل فيما يقولون مبالغة، ولكن الابتسامة تظهر على وجوههم، وفي أعماقهم، دون أن يحملوا أي شكّ في ذلك.
لهذا نري، بين الحين والآخر الناسَ يحدقون في السماء، وهم يمشون في الشوارع أو على شواطئ البحار، وأنت إن سألتهم:
” فيما تنظرون؟”
يرتبكون ويرفعون أكتافهم قائلين:
” آه، لا شيء …كنت أنظر لعلني أري…طائرة”
ولكنهم يكذبون، فهم يبحثون عن الطفل الذي يجلس على السحابِ الذي هو في شكل كثيب رملي.
********

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *