*ألفة يوسف
في هذا العصر الّذي كثر فيه الحديث عن الأديان في مجالات إيديولوجيّة سياسيّة يختلط فيها الحابل بالنّابل… في هذا العصر الّذي أصبحت فيه عبارة: «الله أكبر» تُرفع لا فحسب في المساجد، وفي فترات العبادة ولا في قلوب المسلمين والمؤمنين، بل في ساحات الإجرام والإرهاب والقتل باسم الدّين… في هذا العصر نرى أنّ طرح العلاقة بين الدّين والسّعادة مسألة جوهريّة. وفي هذا المقال سنحاول التّعرّض لعلاقة الدّين بالسّعادة مركّزين اهتمامنا على الإسلام أساساً.
تتأتى جوهرية طرح العلاقة بين الدين والسعادة من سببين على الأقلّ:
السّبب الأوّل هو قيام الحضارة الحديثة على تسويق مفهوم السّعادة بشكل كبير في مقابل تزايد حالات الاكتئاب واليأس والانتحار حتّى في الدّول المتقدّمة الّتي يتوافّر لمواطنيها نمط الحياة المريح و«الكماليّات»، فضلاً عن الضّروريّات.
السّبب الثّاني متّصل بما ذكره مالرو (Malraux) منذ عشرات السّنين من أنّ القرن العشرين سيكون قرن عودة الأديان إلى صدارة اهتمام الإنسان، وهذا ما تجسّم فعلاً بأشكال مختلفة تؤكّد أنّ حاجة الإنسان إلى الرّوحانيّ ليست متّصلة بزمان أو مكان معيّنين.
لا أحد ينكر أنّ الأديان الكتابيّة جميعها تعد الإنسان بالسّعادة في الحياة الأخرى. والقرآن، كتاب الإسلام المؤسّس، يعجّ بالآيات الّتي تعد المتّقين بنعم الجنان الخالدة، ويحدو الشّوقُ إلى نعيم الجنّة عدداً كبيراً من المسلمين عبر الالتزام بأوامر الله تعالى واجتناب معاصيه، وحتّى إن اختلفت أحياناً بعض التآويل وتعارضت، فإنّ المسلم يتمثّل نعيمَ الجنّة باعتباره الأفق الأقصى لالتزامه الدّينيّ. ومفيد أن نشير في هذا المقام إلى تلازم الشّوق إلى نعيم الجنّة بالخشية من عذاب النّار، وهما متّصلان في جلّ آيات القرآن الكريم، حيث نجد ترغيبا في نعيم الجنّة وترهيباً من عذاب جهنّم.
ولئن أُلّفت كثير من الكتب والمقالات في التّديّن بصفته سبيلاً إلى السّعادة في الآخرة، فقلّة هي الكتابات الّتي بحثت في العلاقة بين الدّين والسّعادة في الحياة الدّنيا. ولئن شاع لدى جلّ الفقهاء أنّ الدّنيا مقام ابتلاء، وأنّ الآخرة هي مقام النّعيم، فإنّنا خلافاً لذلك نتصوّر أنّ الدّين يسعى إلى أن يحقّق السّعادة في الحياة الدّنيا لا فحسب في الآخرة.
لا تضارب
لقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى في صيغة دعاء: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة، 201). وانطلاقاً من ذلك فإنّنا لا نرى تضارباً بين تحقيق السّعادة في الدّنيا وتحقيق السّعادة في الآخرة.
إنّنا بنظرنا البسيط السّاذج في حياة البشر نجد أنّهم جميعاً يتراوحون بين لحظات العذاب ولحظات السّعادة، فما من أحد في مأمن من المرض والفقر والصّعوبات بـأنواعها.
لو تأمّل كلّ واحد منّا حياته لوجدها مليئة بلحظات ألم ولحظات سعادة، ولتبيّن أنّه في اللّحظة الآنيّة يحاول تحقيق جميع سبل السّعادة ويحاول تجنّب جميع إمكانات الألم. ولم ينقل التّاريخ البتّة خبراً عن شخص استطاع أن يتجنّب وجوه الشّقاء والألم والعذاب. فحتّى الأنبياء، وهم أقرب الخلق إلى الله تعالى، عانوا ويلات كثيرة ولاقوا صعوبات مختلفة. بل لعلّ جوهر الدّعوة كانت بالنّسبة إليهم قائمة على المعاناة والصّعوبات. والنّاظر في تاريخ الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم) يلاحظ مثلاً أنّه قد عانى الويلات من قريش في بداية الدّعوة، وأنّ القرآن نفسه قد نقل اتّهام القرشيّين له بالجنون والسّحر والكذب، كما نقل القرآن أمر الله تعالى للرّسول بأن يصبر على الأذى، إلخ.
ولكن رغم ضروب الألم والعذاب هذه فإنّ الرّسول (عليه الصّلاة والسّلام) كان دوماً مطمئنّاً هادئاً. ورغم عسر ظروف نشر الدّعوة لم يكن فظّاً ولا غليظ القلب. والأهمّ أنّه لم يكن حزيناً ولا يائساً. ويمكن أن نتذكّر أنّه هو من طمأن أبا بكر الصّدّيق إذ كانا بغار حراء وإذ كاد المشركون يعثرون عليهم بقولته الشّهيرة: «لا تحزن، إنّ الله معنا».
ونريد هنا أن نقف على هذه المفارقة الظّاهرة بين العذاب الّذي عاناه بعض الأنبياء والشّخصيّات التّاريخيّة المتديّنة عموماً من جهة وبين الاطمئنان والرّاحة اللّذين كانا يسمانهما من جهة أخرى. وإنّنا نزعم أنّ فهماً مخصوصاً للعلاقة بين الدّين والسّعادة هو ما يفسّر هذه المفارقة ويحلّها.
سنكتفي فحسب بضرب بعض الأمثلة لشخصيّات تاريخيّة حافظت على «سعادتها» رغم الصّعوبات والمآسي والعذاب. أشرنا إلى الرّسول (عليه الصّلاة والسّلام)، ولا يمكن أن نغفل الإشارة إلى إبراهيم (عليه السّلام) وهو يسير بابنه نحو الذّبح هادئاً مطمئنّاً. ولا يمكن أن نسهو عن الحلاّج الّذي نُقل عنه، حين همّوا بقتله، قولُه: «قد اجتمعوا لقتلي تعصّباً لدينك، وتقرّباً إليك، فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا».
من خلال الأمثلة السّابقة يظهر غريباً أن يكون الإنسان متألّماً وسعيداً في الآن ذاته. فكأنّنا بإزاء اجتماع متقابلين، بل متناقضين ممّا يتعارض مع المبدأ المنطقيّ الأرسطيّ، مبدأ الثّالث المرفوع. والحقّ أنّ هذه القراءة تغفل أمراً أساسيّاً، وهو أنّ السّعادة في معناها الفلسفيّ ليست متضاربة مع تعرّض الإنسان لبعض صنوف الألم والعذاب. ولعلّه من الضّروريّ أن نقف في هذا المستوى من مقالنا على مفهوم السّعادة وعلاقتها بالتّديّن لنحلّ المفارقة الظّاهرة الّتي أشرنا إليها سابقاً.
السعادة نسبية
أسلفنا أنّ حياة كلّ إنسان تمرّ بها لحظات مفرحة وأخرى مؤلمة. وعلينا أن ننتبه إلى أنّ عبارتي «مفرحة» و«مؤلمة» هما كلمتان معياريّتان، أي أنّهما تحملان حكماً على الأشياء. هذا الحكم يستند إلى قراءة بشريّة للواقع يُحدّد وفقها وبمقتضاها ما هو الشّيء المفرح وما هو الشّيء المؤلم. ويمكن أن نبسّط المسألة ونشكلنها بأن نسند إلى ما يُعدّ فرحاً صفة الإيجابيّ، وبأن نسند إلى ما يُعدّ حزناً صفة السّلبيّ. مع تذكر أن صفتي السّلبيّ والإيجابيّ هما حكمان نسبيّان من المنظور البشريّ التّاريخيّ.
وخلافاً لذلك فإنّ السّعادة الّتي ينشدها الإنسان ليست وسماً نسبيّاً مؤقّتاً، فالمرء يسعى إلى السّعادة مطلقاً، أي أنّ السّعادة الّتي نرجوها ليس لها مقابل ولا ضدّ. فكيف تتحقّق هذه السّعادة في الحياة وما علاقتها بالدّين؟
تختلف الأديان جميعها في شعائرها وطقوسها ولكنّها تشترك في أمر أساسيّ وهو تسليمها بوجود قوّة تحكم الكون تسمها الأديان الكتابيّة بالله تعالى وتسمها بعض التّقاليد الرّوحانيّة بالفراغ أو التاو (le tao). وتتّفق كلّ الأديان والتّقاليد الرّوحانيّة على إطلاق هذه القوّة وحكمتها (1) وتتّفق على أنّ جوهر الدّين هو في التّسليم لها وفي طاعتها، على أنّ كثيراً من المتديّنين يحصرون طاعة الإله في الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه وينسون وجهاً أساسيّاً من وجوه الطّاعة وهو التّسليم بإرادته تعالى على أساس أنّه وحده عليم بما يجب أن يكون.
يمكن في هذا المقام أن نستحضر قوله تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» (البقرة، 216). إنّ هذا الجزء الأوّل من الآية يذكّر بأمر أساسيّ وهو أنّ الخير والشّرّ مسألتان نسبيّتان من منظور البشر، أي أنّ الإنسان غير مؤهّل مطلقاً لتحديد ما هو خير وما هو شرّ بالنّسبة إليه، ومن ثمّ بالنّسبة إلى كلّ ما يجري في الحياة، فما الحياة إلاّ جماع أحداث تجري للنّاس جميعهم، ويبدو صراحة من خلال الآية أنّ تقييمنا لهذه الأحداث من منظور الحكم الإيجابيّ أو السّلبيّ المعبّر عنهما بالحبّ والكره، إنّما هو تقييم مستحيل، وسبب ذلك قصور معرفتنا البشريّة بالكلّ، وهذا ما يثبته باقي الآية: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، فاعتماد لفظ «العلم» هنا ليس اعتماداً منسّباً متّصلاً بالعلم بموضوع مّا دون آخر، وإنّما هو اعتماد مطلق يحيل على العلم إطلاقاً، ولذلك استعمل الله تعالى الفعل اللاّزم دون مفعول به أي دون تحديد موضوع للعلم دون آخر، وبديهيّ أنّ العلم مطلقاً هو من صفات الله تعالى وحده دون سواه.
ما وراء الخير والشر
من هنا إذن نتبيّن أنّ الخير والشّرّ وما ينتج عنهما من فرح وألم وما نسنده إليهما من أحكام إيجابيّة أو سلبيّة هي مسائل نسبيّة من منظور البشر، ويمكن أن نوضّح هذه القراءة بأمثلة عديدة من الحياة اليومية، لكننا سنكتفي بمثال مستمدّ من القرآن الكريم، يحيلنا على سورة الكهف وقصّة الرّجل الصّالح وموسى عليه السّلام.
لنتذكّر معاً الآيات 65-82 من سورة الكهف: «فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً-قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً-قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً-وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً-قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً-قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً-فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً-قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً-قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً-فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً-قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً-قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً-فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً-قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً-أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً-وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً-فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً-وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً».
إنّ جوهر هذه القصّة القرآنيّة هو الاختلاف في تأويل الحدث الواحد، فما يراه موسى شرّاً يعتبره العبد الصّالح خيراً (2). ومردّ الاختلاف بينهما أنّ موسى يقيّم قتل الغلام وخرق السّفينة وبناء الحائط مجّاناً وفق معرفته الظّاهرة بالأمور أي وفق معرفته النّسبيّة المنطقيّة، أمّا العبد الصّالح فهو يقيّم الأحداث نفسها وفق معرفة ألهمه إيّاها الله. إنّ الفرق بين موسى والعبد الصّالح أنّ الأوّل لا يعرف من المقام إلاّ بعض عناصره في حين أنّ الثّاني يعرف أكثر ممّا علّمه الله من عناصر المقام، وهذا هو جوهر الفرق بين الإنسان والله، فلا يمكن للإنسان-وقد قصرت معرفته بالمقام عن أن تكون مطلقة-أن يفهم حكمة الله في الكون (3). وفي هذا الإطار يتسنّى لنا أن نفهم الحديث عن الصّبر في القصّة القرآنيّة، فليس أصل الصّبر سوى صبرنا على جهلنا وعدم قدرتنا على فهم سبب ما قد يبتلينا به الله من ظاهر المصائب.
لعلّ كثيراً منّا يتذكّر الحكاية البسيطة الّتي يقصّونها على الأطفال ليُفهموهم بالتّمثيل الحسّي معنى أنّه عسى أن نحبّ شيئاً وهو شرّ لنا وعسى أن نكره شيئاً وهو خير لنا، وهي حكاية ذاك الرّجل الّذي كان مسافراً في رحلة عمل مهمّة فإذا بطارئ يحصل لسيّارته وهو في طريق المطار ممّا جعله يتخلّف عن الطّائرة، فحزن كثيراً إلاّ أنّه علم في الغد أنّ الطّائرة سقطت وتوفّي كلّ ركّابها، ففرح لأنّه أخطأ الرّحلة. إنّ هذه الحكاية قد تساعد الصّغار ظاهريّاً على فهم نسبيّة الخير والشّرّ. ولكنّها في واقع الأمر تنشئ تمثّلاً مخصوصاً للخير والشّرّ إذ توهمنا أنّ بقاء الرّجل على قيد الحياة هو خير مطلقاً، وأنّ وفاة مئات الأشخاص في حادثة الطّائرة هو شرّ مطلقاً. في حين أنّ جوهر المسألة ليس في أن يكون الخير كذا والشّرّ كذا، ولكن جوهر المسألة هو أنّ الخير والشّرّ ممّا لا يمكن للإنسان أن يدركه مطلقاً. وهذا ما يعني أنّ ما يحصل في الكون بإرادة الله تعالى هو بالضّرورة الخير لا بمعنى مقابلته مع الشرّ، ولكن بمعناه الكينونيّ المطلق.
وهنا نبلغ ما ننشد توضيحه عبر هذا المقال: إنّ السّعادة ليست مفهوماً له مقابل وإنّما هي تمثّل ما وراء الخير والشّرّ بالمفهوم النّيتشويّ (4). إنّ السّعادة هي الإيجابيّ المطلق الّذي لا مقابل له، ولا يمكن أن تتحقّق السّعادة إلاّ من خلال التّسليم والثّقة في إرادة الله تعالى.
فمن خلال هذه الثّقة تنتفي ثنائيّات الإيجابيّ والسّلبيّ ويصبح كلّ ما يحصل، ممّا يتجاوز إرادة البشر، موضع سعادة فقط لأنّه من إرادة الله تعالى، والسّعادة بهذا المعنى تفسّر ما أسلفناه من هدوء كثير من الحكماء رغم ما مرّوا به من صعاب ومآس، والسّعادة بهذا المعنى هي المعنى الجوهريّ للإسلام أي التّسليم بإرادة الله تعالى في الكون وبأنّه وحده من يفعل ما يشاء، وبأنّ كلّ ما يفعله مستند إلى الحكمة. إنّ علاقة السّعادة بالدّين هي علاقة سبب بنتيجة، فالتّدّيّن في بعده العميق القائم على التّسليم لله تعالى وعلى تقبّل إرادته مهما تكن هو سبيل السّعادة المطلقة الّتي لا يمكن أن تشوبها شائبة. ومن هنا يمكن أن نقرّ أنّ عبارة «لا تحزن» الّتي قالها الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم) لأبي بكر الصّدّيق لا يمكن أن تُفهم إلاّ بالجملة التّالية وهي: «إنّ الله معنا»، فمفهوم الحضرة الإلهيّة الدّائمة هو الّذي يجعل كلّ ما يحصل للإنسان من إرادة الله تعالى، والثّقة في حكمة هذه الإرادة هي وحدها منطلق السّعادة في بعدها المطلق الّذي لا يمكن أن يشوبه ألم ولا حزن ولا قلق.
سعادة الفارابي
يقوم البناء المفهومي لتصوّر الفارابي الأخلاقي على تعيين الأدوات التي تفيد الأمم والمدن في تحصيل سعادتها بنوعيها الدنيوي والأخروي، فالسعادة التي يشير إليها في مؤلفاته هي، في الوقت نفسه، طريقة ونمط في الحياة، تماما كما الفلسفة فهي تستوجب قطاعاً نظرياً وآخر عملياً. لذلك كان شغل الفارابي، في جانب كبير منه، عملاً مفهوميّاً بالدرجة الأولى يهدف من خلاله إلى بيان حدود الوصل والفصل بين هذين القطاعين، أي جانبي النظر والعمل في الإنسان. ومن ثم وردت الأسئلة المركزية التي تخلّلت جلّ أطروحات الفارابي بصيغة علمية تطلب تعيين حدود بداية كل موضوع ونهايته.
ولهذا، يسعى الفارابي لترتيب هذه المبادئ وتبويبها، وذلك من أجل تملّك الأدوات الضرورية في عملية حصر أصل الأشياء وعللها، فيقف عند برهاني الإنّية واللّمية من بين أربعة مبادئ للموجود كان أرسطو قد حدّدها.
____
*الاتحاد الثقافي