*عناية جابر
باستثناء بعض الأسماء المثقفة التي تكتب في الأحداث السياسية، الكبرى منها في عالمنا العربي على وجه الخصوص على غرار ما يحدث راهناً، لا نقع في حمأة هذا الحراك علـــى مقالة ما، تؤشرعلى انخراط مثقفــــين جــــدد غــــير الأسماء التي أشرنا، في ‘معمعة’ الإنبلاج العسير لفجر حرية جديد. بعض الأسماء، وكما لو تساير الموجة فحســب، تنعى على الحاكم استبداده وبطشه، لكنها، وهذا غريب، تتجنب تماماً الخوض في نقد النظام السياسي. يبكي بعض المثقفين (المرتبكين) شعوباً تحصدها آلة الدمار العسكرية، لكنه يُحاذر تسمية القتلة، كما لايدعو صراحة الى الثورة، ولايُبّشر حتى بغد جديد.
يندر أن نجد، عند أغلب المثقفين العرب، معالجة صريحة أو إحتجاج على حاكم أو رئيس أو ملك، أو عرضاً لكشف المظالم أو دعوة الى التغيير. أمر غير واضح ما يكتبه هؤلاء، ففيه التجنب التّام للإنخراط، حتى عبر الكتابة على الأقل، والتنّصل من كل ما يجري بحجة الترّيث والتعقّل، ربما لإنجلاء الأفق . تريّث غير بريء، إختطه بعض المثقفين عن وعي لذواتهم ‘النخبوية’، مع إلهاء قارئهم في كتابات تبقى في خانة التأتأة ولا تصل الى مرتبة الإحتجاج كحّد أدنى، وموغلة في تبرئها مما يجري من حراك ثوري، كما لو يخاف المثقف من الثورة ليس فقط على حياته بل على نصّه في مقام أول.
الحياد المريب لبعض المثقفين الكبار على وجه الخصوص، شائك ويحتاج الى علماء نفس وأطباء في أمراض المثقفين وحدهم.
يكتب المثقف العربي في الرغبة الى الحرية!! في عناوين عامّة نحسّ معها أن هذا العموم تمويه وتستر عن مخيلة مريضة. يكتب في لحظة احتجاج ويدل الى خاص لم يتعين، كما تعتري لغته سمة التعب الخبيث، ومتخليّة تماماً عن لذة الكبرياء.
إن كتابة المثقف في الحرية والديمقـــــراطية والكــرامة للشعوب في جمرة هذه اللحظة الثورية، باردة وسطحية، لاتخصّص ولا تستثني، وتعتريها روح إنشقاقية تقف بين النّص ‘السماوي’ وبين ما يجري على الأرض فعلا.ً كتابة تبقى على الأطراف لاتصيب العمق، إذ لم يصل أغلب المثقفين العرب الى ‘ذروة’ الضلوع بحريته الشخصية أولاً، ثم بحرية باقي الشعوب، ونصوصه بالتالي، بقيت في إنشائيتها وتخلّفها وخوفها.
ثمة في كتابات بعض المثقفين تلك النوستالجيا الى الذات المخنوقة التي بُنيت عليها كتاباتهم من الأساس، وفيها عودة الى رومانسية الكــآبة والبكاء والتمسّح في أحضان المتنفّذ والقوي.
ليست ثورية حقة، تلك الكلمات المحشورة حشراً في نصّ هذا وذاك، وليس الغضب، او التمرد أو تنسّم هواء الحرية النقي. مجرد استعارات مبهمة من الشعارات المرفوعة لناس الميادين، لا تعمل حنكتها في النقد الواعي، ولا تصيبها الغيرة من هذه اللحظة الإنسانية المضيئة، بل تكتفي بالسخرية المموهة تحت ستار المشاركة.
لعل أغلبنا لاحظ، مدهوشاً صمت كبار المثقفين، عن الكتابة في السؤال المحوري الآن وعن الجواب عنه. هوية غامضة، ونعرة وعنجهية، تشي أن صمت المثقف نابع من عدم هضمه هذا الحراك الذي يُطيح بعلاقاتـــــه مع ذوي النفوذ، وبمراهناته على أكثر من جــــائزة أدبية هي في أغلبها من مصادر الحاكم الذي يلهج الشعب بشعار إنزاله عن عرشه. لا يهضمون هذا الحراك بل يبغضونه، ويقفون على الحياد متفرجين على ما ضاقت مخيلتهم عن تصوّره، وإن كتب أحدهم على استحياء، فبلغة مسحوبة العصب، ليست الثورة من همومها.
لن نعدم على ما ذكرنا، بعض الكتابات التي تلهث الى الإقتراب من الحدث الكبير، لكنها حافلة بالإلتباسات. بالشك واللاإيمان. كتابة تصالح الحاكم والشعب في لغة زئبقية تضرب في جذرها في الشك والعدم، وإحتجاجها الصوري متعدد ومتناقض، يلامس أطراف الحدث من دون عمقه.
لا نطلب الى المثقف النزول الى الشارع ولا ارتياد الميادين ولا الهتاف فيها. نطلب اليه منه لغة، منتصبة غير ملتوية. شرسة وصلبة ولا تفتقر الى الهارموني، ونطلب لغة متوترة، قد لاتصنع ثورة، ولا تحرّض عليها لكنها تضمرها. كتابة تبدأ من هموم الناس وتمضي بلا لعثمة في النداء عينه. وكتابة تبدأ من الحقائق الصعبة والوعرة ولا تبتعد عنها الى متحفية اللغة والإحتفال بقدسيتها وكمالها على حساب الناس وحساب عذاباتهم.
لانريد لغة سماوية، بل ذلك الغليان الإنساني، فالمثقف هو انسان ومبدع في آن، وليس صاحب أمثولة واحدة.
من غير المفيد، في هذا الوضع الإستثنائي والمعقّد، دعوة كبار المثقفين الى تحوّل جذري في فلك ثقافتهم التي تجذرّت على الصمت والسكونية، وقامت نصوصهم على القطيعة الحّادة، بينه وبين العامّة أو الشعب، ما أكسبها وهجاً مُخادعاً، لتأتي الثورات وتسقطهُ بالضـــــربة القاضية.
الفرصة متاحة مازالت، ليتدارك المثقف الصامت انحدار نصّه، وانحداره شخصياً الى صمت أدهى وأمرّ. الحداثة الإنسانية حلّت من دون رجعة، وهي برحابتها جعلت من مقترحات الكتابة الإبداعية التي تعنى بهموم الناس، حضناً وملاذاً، يسقط خارجهما، أيّ مقترح مجّاني.
_______
*القدس العربي