كيف تحذف الذكريات السيئة من رأسك؟



*علاء الدين السيد


هناك مغامرة عقلية مشهورة جدًا يخوضها أغلب الطلاب في مراحل التعليم المختلفة، هذه المغامرة تتمثل في «حشر وحشو» الطلبة لعقولهم بالمعلومات والمناهج الدراسية، خلال فترة التحضر لخوض الامتحانات. لكن بمجرد أن ينتهي الامتحان، يقوم هؤلاء الطلبة بمنتهى البهجة والسعادة بنفريغ أدمغتهم وإخلائها من كل هذه المعرفة والمعلومات التي تعلموها بشق الأنفس؛ لأنه لم تعد هناك حاجة لها بعد انتهاء الامتحان.
وبعد مرور أيام قليلة على انتهاء الامتحانات، لا نستطيع تذكر الكثير مما درسناه، إلا بصعوبة بالغة، خصوصًا فيما يتعلق بالتفاصيل. في هذه اللحظة بالذات نبدو كما لو أننا قد نسينا الغرض والهدف مما تعلمناه.
مفاجأة غير متوقعة
وقد يمثل الأمر مفاجأة كبيرة لنا إذا ما عرفنا أنه، وحتى وقت قريب جدًا، كان هناك القليل من الأدلة العلمية التي تقول إن الناس يمكن أن يملكوا أي تأثير متعمد على معدلات النسيان. بمعنى آخر فإنه لم تكن توجد أي دلائل علمية مؤكدة على أن الإنسان يمكنه أن ينسى ذكريات معينة مع سبق الإصرار والترصد.
لكن في السنوات القليلة الماضية، أظهرت مجموعة من «التقنيات التجريبية» أنه عند وجود الظروف الملائمة، فإنه يمكننا في الواقع أن ننسى أشياء معينة عن عمد. هذا الأمر قد يبدو رائعًا ورقيقًا لنا، لكنه مع هذا يمكن أن يثير الكثير من العواطف أيضًا؛ أن يمكنك أن تنسى أشياء معينة بكامل إرادتك هو أمر قد يمثل مهارة قاتلة للحياة أحيانًا.
السؤال المهم هنا هو كيف نعمل عملية «النسيان المتعمد» هذه؟ دراسة حديثة أزالت الغموض حول هذا الأمر المميز.
النسيان المتعمد حقيقة
العالمان «جيريمي مانينغ» و«كينيث نورمان» كانا يقومان بعمل رائع في ما يتعلق بالأبحاث التي تخص الذاكرة لسنوات عديدة، من بين هذه الأبحاث كانت توجد تجربة «ماكرة» بشكل ملحوظ. خلال هذه التجربة قدم العالمان أدلة تؤكد أننا ننسى أشياء؛ عبر التخلص من السياق العقلي الذي جرت في نطاقه هذه الذكريات، أو ـ بشكل أكثر تحديدًا ـ إننا نتخلص من السياق العقلي الذي تعلمنا فيه هذه الذكريات لأول مرة.
وتعد هذه التجربة وهذه الدراسة إحدى الدراسات المتطورة والمعقدة، لكن في جوهرها، فإن هذه التجربة كانت توجه الناس إلى تذكر بعض الكلمات التي تعلمها الناس الذين خاضوا التجربة لتوهم أو نسيانها بشكل متعمد. بعد هذا قام الباحثان بالتجسس على الدماغ؛ في محاولة لمعرفة ما الذي يحدث للدماغ بعد ذلك.
ما شاهده العالمان خلال عملية التجسس هذه هو أن الدماغ الذي يحاول التذكر يبقى السياق العقلي الذي جرت خلاله عملية التعلم نشطًا، وعلى الجانب الآخر، فإن الدماغ الذي يحاول أن ينسى فإنه يقوم بالتخلص من السياق الذي جرت خلاله عملية التعلم. في عملية النسيان اتضح أن الدماغ يستغني عن «السقالات» العقلية (والمقصود بها تركيبات مؤقتة تنشأ في الدماغ، والتي تدعم بناء تلك الذكريات التي يتم تعملها في المقام الأول).
السياق العقلي
هذا السياق العقلي الذي هو مفتاح النسيان المتعمد يمثل مبدأ لافتًا للنظر؛ لأنه ينتج عنه أيضًا إحساس بديهي بأنه هو المفتاح للتذكر أيضًا. أقوى تقنية معروفة تخص الذاكرة تسمى «قصر الذاكرة»، وهي على وجه التحديد أداة تستغل قوة السياق المكاني من أجل تقوية الذاكرة. فمن خلال تخيل الأشياء المحيطة بتعاقب الأماكن «السياقات المكانية»، يمكن لنا استعادة واستدعاء الذكريات عبر زيارة هذه السياقات المكانية من جديد.
في الأماكن والمناطق المألوفة والمعروفة لنا، فإن قاعدة أساسية من قواعد استضافة حفلة جيدة هو التأكد من حدوث تحولات للحدث من خلال استخدام عدة غرف أو مواقع. وبالتالي فإن الحفلات التي تجري بالكامل في نفس المكان أو المنطقة أو الغرفة أو النطاق المكاني تتحول إلى فوضى، وتحول الذاكرة إلى ذاكرة غير منظمة، وغير مرتبة، وبالتالي فإنه يصعب على الحاضرين تذكر تفاصيلها، وكل أحداثها بوضوح.
وعلى النقيض، فإنه عندما تحدث الحفلة في أماكن ونطاقات مكانية مختلفة ومتباينة، فإن هذا التنوع ينعكس في الذاكرة في وقت قليل، ويمكن للمرء تذكر بالضبط كل ما خاضه من تجارب في كل مكان من الأماكن المختلفة التي شهدتها هذه الحفلة، ويبدأ الشخص بالاستمتاع بكل لحظة من لحظاتها مما يساعدك على تذكر كل التفاصيل التي دارت.
وبالطبع فإن جودة التجربة ترتبط ـ بشكل أساسي ـ بالكيفية التي ستتواجد فيها في الذاكرة: ألا تلاحظ دائمًا أن تجاربك وذكرياتك الأكثر سحرية، وذات المغزى القوي، تمتليء بالكثير من الشكوك والمعاناة، والمشاكل في ذات الوقت، لكنها لا تكون ظاهرة بوضوح، دائمًا ما نلاحظ أن الذكريات الرائعة مرتبطة بتفاصيل من المعاناة المخفية عن العقل الواعي. الفكرة هنا أن التفاصيل غير الجيدة لذكرياتنا دائمًا ما تكون مخفية في منطقة مظلمة من الذاكرة؛ بسبب أن الجزء العلوي من الجبل، المليء بالذكريات الجيدة المرتبطة بحدث ما، هو الذي يكون ظاهرًا للعيان، وبالتالي فإنك تشعر دائمًا بالسعادة عندما تتذكر حدثًا ما مليئًا بالتفاصيل الجيدة، وتتوارى الذكريات السيئة.
عصر إهمال الذاكرة
يقال أحيانًا «إننا نعيش في العصر الذي لا يقدر قيمة الذاكرة»، هذا الأمر يبدو أنه أمر مقلق بشكل جدي، في ضوء الدور الهام والحيوي للذاكرة المتعلق بالمعنى. هناك الكثير من العلماء الذين لا يتفقون مع العبارة السابقة، ومع عبارة أن العالم لم يعد يملك قدرة أكبر على تطوير الذاكرة واستخدامها، لكن هذه الدراسة المثيرة للاهتمام، وعلى الرغم من أهمية سياقها المتعلق بالقدرة على التذكر وعلى النسيان، فإنه يمكنها أن تجعلنا متناغمين ـ على الأقل ـ مع وسيلة واحدة في اتجاه تطوير تجاربنا الخاصة بالتذكر.
فكرة أنه لا قيمة لذاكرتنا تأتي من وجود بدائل لا حصر لها للاحتفاظ بالذكريات، فالهواتف النقالة تجعلنا نحتفظ بأرقام الهواتف، بعدما كنا نحفظها في الماضي عن ظهر قلب. الآن نلاحظ أن جميع ذكرياتنا أصبحت تتواجد على هواتفنا وحواسيبنا في صورة صور وفيديوهات رقمية، بدلًا من أن تكون هذه الذكريات متعلقة في أذهاننا فقط؛ نتيجة لذلك فإن تجاربنا الهامة وذكرياتنا الأبرز تتراجع من ذاكرتنا؛ لأننا أصبحنا نقوم بتسجيلها كصورة يتم تداولها.
هذا الأمر يجعلنا أقل قدرة بكثير على التذكر المباشر للتجربة الأصلية، وتصبح الصور هي وسيلتنا للتذكر. كثير منا يلاحظ أنه لا يستطيع بالفعل تذكر لحظات هامة جدًا في حياته، إلا بعد أن تعرض عليه صورة معينة تذكره بها، بينما كان أجدادنا يحكون لنا أهم ذكريات حياتهم بالتفاصيل المملة. على سبيل المثال، إن كنت متزوجًا منذ 10 سنوات، هل تستطيع إخبارنا بما كانت ترتديه زوجتك في أول مرة شاهدتها فيها؟ لكن اذهب لجدك وسيخبرك بتفاصيل قصته العاطفية، والنظرة الأولى، وكل ما جرى حولها من تفاصيل.
نتيجة لهذه الأمور، فقد أصبحت حياتنا منحازة لصالح الأمور البصرية، والتشاركية أكثر من أي وقت مضى. المشكلة أن الأمور البصرية هي الأكثر هدوءًا، والأقل عاطفية من جميع الأشكال، والأنماط الأخرى. كما أن ما نتشاركه من ذكريات ينحاز تجاه ربط ذكرياتنا بالأوقات الجميلة والسعيدة، وهو ما يمكن أن يكون مخالفًا للحقيقة التي كنا عليها في ذلك الوقت. وبالتالي فإن ذكريات حياتنا تصبح أقل سماكة، وأقل صدقًا مما هي عليه فعلًا.
ربما في يوم من الأيام سيكون عندنا القدرة على تذكر جميع اللحظات السعيدة، وننسى في المقابل الذكريات واللحظات السيئة، التي تعيقنا.
 هناك بعض التقنيات تحت تصرفنا، والتي تساعدنا على تحقيق هذا الأمر، «تذكر اللحظات السعيدة، ونسيان اللحظات السيئة». لكن هذه التقنيات تتطلب أكثر من مجرد تغيير الطريقة التي نرتبط فيها بذكرياتنا، فهي تتطلب أيضًا أن نعدل الطريقة التي نعيش بها.
_____
*ساسة بوست

شاهد أيضاً

كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأدب

كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأدب مولود بن زادي في كتابه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *