الوجه الآخر للمثقف في «رسائل ما قبل الآخرة»


أحمد الصغير*



قرأت مؤخرا كتاب رسائل ما قبل الآخرة «إشارات في علل وأمراض المثقفين» للكاتب والشاعر المصري أشرف البولاقي. والصادر عن دار هيباتيا للنشر، (القاهرة). جاء هذا الكتابُ في شَكلٍ أدبي عميقٍ وجريء في آن واحد، بلْ هو في ظني كتاب يدخلُ في منهاجِ التحليل النفسي الثقافي لأمراض الشعراء والأدباء والمثقفين بعامة، يطرح الكثير من عللهم وأمراضهم وأكاذيبهم وسرقاتهم الأدبية، وانتهازيتهم التي فاحت رائحتها في كل مكان، لم يقل الكاتب في مقدمة كتابه أن هذا الكتاب في الأدب أو الشعر أو المسرح، بل قال في عبارة قصيرة: «إن صفحات هذا الكتاب تخلو تماماً من الإنشاء والبلاغة، أو من جماليات الكتابة الإبداعية المتعارف عليها، فهي ليست صفحات في الشعر، ولا في الأدب، لكنها صفحات في السيكو سيكو الأدبي والثقافي!!»
لم يذكر الكاتب اسما معينا لشاعر ما، أو ناقد ما، أو أديب، بل اكتفي بقوله: أيها الأستاذ الشاعر: …………….. ، أيها الناقد: ……………، أيها الأكاديمي………….. ، أيتها المترجمة/……………… ، وهذه الحيلة الفنية التي لجأ إليها الكاتب؛ ليرفع عن نفسه الحرج والمشكلات القضائية التي يمكن أن تلاحقه فيما بعد!! وهو واحد من الشعراء المصريين، وأحد مثقفيها، ويعمل موظفا بهيئة كبيرة في مصر، لها ما لها وعليها ما عليها، حينما شرع البولاقي في اختبار هذه النصوص الكاشفة، بدأ يطرح منها شذرات على صفحته بالفيس بوك، وانهالت عليه الاتصالات والتعليقات من هنا، ومن هناك تحذر، وتهدد وتشتم وتسب، وهو يضحك، قائلا: أنا لم أقصد أحدا بعينه، أنا قصدت طرح هذه الأمراض الثقافية والعلل، لكشف الواقع الثقافي، وتعريته، حتى يعرف العامة من أهل مصر، كيف يفكر الأدباء والشعراء، وأهل النخبة، وتكشف النصوص التي اجتزأناها من الكتاب البعد النفسي والثقافي المتناقض الذي يعيش فيه بعض الأدباء الذي طرح الكتاب مواقف معهم، ومن ثم فإن البولاقي يعد من أجرأ الكتاب المهمومين بواقعهم الثقافي المصري والعربي. فيقول على سبيل المثال:
«الصديق الأستاذ/…………
انسحابك من الحركة الأدبية والثقافية ربما يكون دليلا على عجزك وقلة إبداعك وعدم قدرتك على التحقق.. وليس صحيحا ما تدعيه وتذيعه بين العامة من أن الوسط الثقافي أو الأدبي بات مستنقعا لا يليق بطهرك ونظافتك!!
بسيطة جداً: استحمي بعد ما تكابلك قصيدة!!»
نلاحظ في الرسالة السابقة أن الكاتب اعتمد على كتابة الرسائل القصيرة التي تشبه الإبيجرام النثري الذي كتبه الدكتور طه حسين في عام 1944 في كتابه جنة الشوك، حينما اخترع طه شخصية الفتي (السائل)، وشخصية الشيخ الأستاذ (المسئول)، يبدو البولاقي متأثرا كثيرا بأسلوب طه حسين في طريقة انتقاده، وهجائه للواقع الثقافي من خلال السخرية أو المفارقة التي اهتم بها في رسائله الأدبية، مثل (استحمي بعد ما تكتب لك قصيدة!!) وهذه السخرية التي تخفي (كم المرار الطافح) في مجتمع المثقفين والشعراء الذي يظنون أنفسهم أكثر طهارة من غيرهم، على الرغم من أنهم لبنة من لبنات هذا الواقع الثقافي الكريه كما يدعون!! ومن ثم فقد جنح البولاقي إلى طرح هذه المشكلات النفسية من خلال رصدها، مضيفا عليها بعض روحه الساخرة الحزينة إزاء تصرفات بعض الأشخاص من جماعة الأدباء، فالانسحاب الذي يهدد به الشاعر كلما رأي شيئا قبيحا من وجهة نظرة راح يصول ويجول متنسكا ومدعيا الطهر والنقاء، وهنا يضيق المؤلف بهذه النماذج المتضخمة في الواقع الثقافي وهي لا تساوي شيئا في عالم الأدب، لأنها لو كانت تساوي ما فعلت هذه الأفاعيل الصغيرة!
ويقول البولاقي أيضاً:
«المبدع الأستاذ: ………..
بعد سنوات من ظهورك وتحققك كان اختفاؤك وانطفاؤك، وقال البعض إنك تسعي وراء الدراويش والمجاذيب، وقال البعض إن لوثة أصابتك، حرمت على إثرها الكتابة والأدب… وفجأة عدت تعض الناس وتـأكل لحومهم، وتعلن انضمامك للتيار السلفي».
تبدو الرسالة السابقة موجهة للأديب المتقلب الذي تحول سريعا حسب تحولات الحياة السياسية المصرية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، تكشف الرسالة أيضاً عن صورة المثقف الانتهازي الذي يأكل لحوم الناس ويركب على ظهورهم حتى يحقق أهدافه الدنيئة من خلال الفتن والأسافين ونقل الأخبار، وعض الجميع دون استثناء أو رحمة منه. وقد تحول الكثير من أنصاف المبدعين في الفترة الأخيرة للدخول تحت عباءة الاخوان، والدفاع عن الفكر الإرهابي الذي يدمر المجتمع. ويقول البولاقي:
«الندوة جميلة ما دمت يا صديقي مشاركا فيها، والمؤتمر ناجح ما دمت مدعوا إليه، والجائزة قيمة، ومحترمة، ما دمت حاصلا عليها أو حتى مرشحا لها».
تطرح رسالة البولاقي السابقة التي تقترب من شكل الإبيجراما، الصورة المتناقضة التي يكون عليها الأديب الانتهازي الذي يهاجم من أجل أمور شخصية بحته، حيث إنه يتخلي عن قضايا الوطن في سبيل الدفاع عن أموره الشخصية، وهنا تكمن الطعنة القوية التي وجهها البولاقي للمنتقدين الذين يهاجمون مؤتمرات الثقافة ليس لأنها ضعيفة وفارغة! لا بل لأنهم لم تتم دعوتهم إليها. يرفع البولاقي القناع الذي يرتديه المثقف في كل زمان ومكان، ليصدم المتلقي العادي بالصورة الحقيقية التي طالما تخفي وراءها المثقف، والتي تناقض الصورة كان قد رسمها المتلقي للمجتمع الثقافة والمثقفين في مصر بخاصة، ومن ثم فقد نلاحظ رغبة المثقف في تشكيل الأقنعة التي يرتديها في كل مكان يذهب إليه. لم تخل رسائل البولاقي من الكشف عن الألم الحميم الذي يقع عليه وهو ضمن جماعة المثقفين أيضاً وكأننا أم عملية كاملة لجلد الذات الثقافية، فهو واحد فيها لا شك في ذلك فيقول:
«صديقي/………
لا تلمني فكل عذابات الجنوب أحب إلى من جراح القاهرة»
لم يذكر اسم صديقه الذي يدعوه للحياة في القاهرة، لكنه ترك الأمر على العموم كما ذكرنا من قبل، ولذلك نلاحظ المبرر الحقيقي الذي جعله يختار الجنوب موطنا، رافضا الرحيل إلى العاصمة (القاهرة) رغم بهرجتها وحضورها الأدبي كما يتوهم المثقفون الذين هاجروا بيوتهم في الجنوب بل من أنحاء مصر كافة، لأجل شهرة، وحضور دائم في وسائل الإعلام المختلفة. وعلى الرغم من عذابات الجنوب (صعيد مصر) فهي عذابات تهون أمام حجم الجراحات التي تصيب المهاجر في القاهرة من خيانة وغيبة ونميمة من جانب المثقفين على المقاهي في زهرة البستان أو الأتيلييه وغيرهما من أماكن تجمعات الأدباء في القاهرة.
فقد كان الشاعر حجازي على حق عندما وصفها أنها مدينة بلا قلب، فهي لا ترحم القرويين، الذين جاؤوا بحثا عن حياة تحقق لهم الاكتفاء النفسي وترضي غرورهم الأدبي.
* القاهرة.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *