الأمور السيئة


*حسن عبد الموجود


جاءت السيارة في موعدها كما فكرت بالضبط، كنت أسير في اتجاه بركة مياه تجمعت في منتصف الشارع بعد يوم ممطر طويل. كان يمكن أن أتوقف قليلاً حينما رأيتها تأتي من بعيد، ولكنني مع هذا اخترت أن أكمل وفي ذهني أن سائقها سيتوقف حينما أكون بمحاذاة بركة المياه أو على أقل تقدير سيُبطئ، ولكن في اللحظة التي صرت بمحاذاة البركة، وأثناء صعودي على الرصيف لأعبرها جاءت السيارة بنفس سرعتها وداست المياه بقوة فأغرقتني من رأسي إلى قدمي.
الآن لا أستطيع ندب حظي، لقد اخترت مصيري وعليّ أن أرضى به، ولكن ما لم يعجبني أنني لمحت سائق السيارة أو بالأدق ذراعه من السيارة، وتبيّنت أنه يرفع وسطاه. ماذا فعلت معه ليعاملني هكذا؟! الآن صرت متيقناً من أنه كان يتمنى أن أكمل طريقي وأصبح بمحاذاة البركة حتى يكمل المشهد الذي يتمناه.
لست من هذا النوع الذي يستيقظ صباحاً ويندب حظه السيئ. لا أرى الغيوم في بلد مشمسة كبلدنا نذير شؤم، ولا أفكر أن فردة حذاء مقلوبة تعني أن اليوم سيكون كارثياً. بإمكاني أن أشعر بأنني المقصود تحديداً من هطل الأمطار في ذلك اليوم، ولكنني لا أفعل. أخرجت علبة مناديل من حقيبتي وبدأت أمسح الطين عن وجهي. بالطبع، لا يمكنني الذهاب إلى العمل هكذا، أخرجت الموبايل واتصلت برئيسي وأبلغته بما جرى، لكنه ظل يهتف في الموبايل «آلو… آلو!»، ثم أغلق الهاتف، وحينما كررت الاتصال امتنع عن الرد. لقد كان بالتأكيد يرفع عن نفسه الحرج أمام رئيسه بسبب عدم حضوري. لو لم أذهب الآن سيحولونني إلى التحقيق. فكرت أنني شخص لا يعرف اليأس. أنهيت رسالة نصية إلى رئيسي وحينما ضغطت زر الإرسال شعرت بأنني انتصرت عليه، بل إنني بالغت في الأمر وأغلقت الموبايل حتى لا أسمع اتصالاته أو أرى رسائله. الآن سأصنع يوماً جيداً. سأحضر الشوكولاتة التي تحبها ابنتي، وأعود إلى المنزل. اتجهت إلى السوبرماركت وكان هنالك رجل مُكوَّر يقف، كل شيء فيه مكوَّر، كرشه، ووجهه، بل إن عينيه تبدوان كعُملتيْن معدنيتين متساويتين، وشاربه يصنع نصف دائرة على فمه. اتجهت إلى ثلاجة الشوكولاتة وعدت بإحداها وسألت عن السعر رغم أنني أعرفه. كنت أرغب في سماع صوته، ولكنه فاجأني بصوت رفيع: «ماذا تريد؟»، أشرت إلى قطع الشوكولاتة المدورة التي تقبع في كيس أحمر، وعاد ليسألني مجدداً: «ما اسمها؟!»، ضحكت، ولكنَّ عينيه الدائريتين استمرتا معلقتين بي دون أن ترمشا، كأنه يعرف أنني لا أجيد نطق اسمها. كان يمكنني النظر إلى الحروف اللاتينية ونطقها «مالتيزر»، ولكن دهشتي وربما ضيقي كانا أكبر من ذلك، وصحت: «قلت لك إنني أريد هذا!»، وأغلق عينيه وقال لي: «لن تأخذها حتى تنطق اسمها»، رددت وأنا أشعر بموجة توتر عنيفة تصيبني: «أنت مجنون بكل تأكيد!»، غادر مكانه ورأيته يتدحرج باتجاهي وقبض على كتفي بكف غليظة وشعرت بأصابعه تسحق عظام كتفي: «الآن لن تأخذها ولكنك ستنطق باسمها»، صرخت مع ضغطه «مالتيزر!»، وطلب مني التكرار وبدأت أصرخ «مالتيزر.. مالتيزر.. مالتيزر!». جريت إلى الجانب الآخر وفاجأتني سيارة بعبور البركة وأغرقتني مجدداً. ثم رأيت وسطى السائق، وانتبهت إلى أنها نفس السيارة. لم يكن أمامي مجال سوى المنزل الآن. كنت غارقاً في شعور بالرعب، وبهيئتي المتسخة تلك رفض كل سائقي التاكسي توصيلي، ربما ظنوا أنني خارج لتوي من بالوعة. اعتراني شعور غريب بأن المدينة تلفظني، ونظراً لإيماني العميق بأننا من نَصنع الأمور السيئة أو الجيدة قررت تكرار الأمر مع أقرب سوبر ماركت، وأمسكت بالشوكولاتة وقلت للشاب الذي يبتسم لي: «مالتيزر!»، ولكنه تجهم فجأة: «لماذا تصرخ؟ أنا أسمعك، ثم لماذا تنطق باسمها؟»، ازداد شعوري بالغرابة والبائع يسأل: «كم ثمنها؟ إذا كنت تعرف كل شيء.. قل ما ثمنها وإلا فلن تأخذها». في تلك اللحظة أقدمت على تصرف غريب لم أعتقد أنني سأقدم عليه أبداً، أمسكت بالشوكولاتة وفتحت الكيس بسرعة وألقيتها بقوة في وجهه وجريت إلى الشارع. كنت أجري وأجري دون أن ألتفت خلفي، حتى وصلت إلى ميدان «حديقة المبدعين»، وتوقفت لحظة لأتخذ قراراً بأي شارع من الشوارع الثلاثة سأسلك، ولكنني فوجئت بأن الشوارع غير موجودة، الميدان مصمت تماماً إلا من الشارع الذي جئت منه. كان نفس الميدان الذي أحفظ أشجاره واحدة واحدة، ولكن لم يكن هناك بائع الكبدة، ولا سيارات مركونة، ليس هناك إلا أنا وخلفي سور «حديقة المبدعين»، نظرت باتجاه الشارع الذي جئت منه، ورأيتهم يأتون باتجاهي، البائع الدائري، والبائع الشاب، والسيارة التي أغرقتني مرتين، وإصبع السائق الوسطى التي تتحرك أعلى وأسفل، واجتاحتني موجة من الغضب.
* كاتب مصري
________
كلمات
العدد ٢٨٩٦

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *