بطل الثلاثية.. “سي السيد” الحقيقي.. هل كانت له غراميات؟!




وليد فاروق محمد*


” الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها مادامت بعيدة عن بيته.. فإذا طرقت بابه، وإذا هددت أمنه وسلامته وحياة أبنائه، تغير طعمها ولونها ومغزاها ” هذه العبارة ليست جزءاً من مقال منشور منذ أيام.. ولكنها عبارة وردت ضمن سياق رواية نجيب محفوظ الخالدة ” بين القصرين ” والتي صدرت لأول مرة منذ 60 عاماً، والغريب أن نجيب محفوظ بدأ إنتاجه قبلها بسنوات طويلة.. ولكن عند صدور الثلاثية بداية من عام 1956 فوجئ باهتمام كثير من النقاد بأعماله السابقة لدرجة أن الناقد الكبير لويس عوض كتب مقالا عنوانه ” نجيب محفوظ.. أين كنت؟ “، وعلق طه حسين على الثلاثية بقوله: ” أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة، ومن العمق والدقة، ومن التأثير الذي يشبه السحر، ما لم يصل إليه كاتب مصري قبله “.. وقد يخفي على البعض أن هذه الثلاثية اسمها “ثلاثية القاهرة”.. وبدأت طريقها إلى السينما بداية بفيلم “بين القصرين” في 1964، ثم فيلم “قصر الشوق” في 1966 وأخيرا فيلم “السكرية” والذي عرض عام 1974.. وسنبدأ رحلتنا هنا ليس فقط بالبحث عن ” سي السيد ” الحقيقي.. ولكننا سنبحث معه عن قاهرة نجيب محفوظ وحواريه.. والتي آفتها النسيان!
سي السيد ” الأصلي “
حينما سئل نجيب محفوظ.. هل كنت تعرف السيد أحمد عبد الجواد في الحياة؟ فقال: ” ما من شخصية كتبت عنها إلا وأخذتها من الحياة المعيشة، الشخصية الواحدة لها أصل في الحياة وإن كانت في الرواية غير هذا الأصل “، والحقيقة أنه لا توجد شخصية في السينما المصرية حملت كل تناقضات النفس البشرية مثل “سي السيد”، فهو الأب القاسي والزوج الديكتاتور في البيت.. وفي الخارج هو رجل الأنس والفرفشة، وزهرة مجالسها، وصاحب اللسان السليط الذي يبدع في تأليف النكت والقفشات الجارحة، وفي البيت هو الرجل التقي الذي يحافظ على الصلوات ويمتلئ قلبه بالإيمان والخشوع حتى يفيض على وجهه، والمتزمت الذي جعل البيت سجنا لنسائه، وحرم عليهنّ الخروج ومجرد النظر من النافذة، ومنعهنّ من إلقاء نظرة الوداع على جثمان “فهمي” لأن ذلك كان يقتضي ذهابهنّ إلى المستشفي.. وفي المقابل هو نفسه العربيد صاحب المغامرات الغرامية التي لا تفرق بين غانية لعوب وبين أرملة الجار، لكن الحقيقة أن ” سي السيد ” الحقيقي اسمه عبد الجواد محمد سعيد، ولد سنة 1905 في درب الأتراك الذي تغير اسمه لشارع الشيخ محمد عبده، خلف الجامع الأزهر بالقاهرة وكان يعمل بالعطارة، أما والده فقد تزوج من تسع نساء أنجب له ثلاث منهن، فكان لـ ” سي السيد ” أخ شقيق واحد أكبر منه بينما كان إخوته وأخواته لأبيه كثيرين في صعيد مصر، وبدأ سي السيد العمل مع والده في محل العطارة منذ أن كان عمره 12 عاما ثم أصبح من أكبر تجار العطارة في الحسين، ومحل العطارة ” الذي أتلف الهوى بضاعته ” مازال قائما ويحمل نفس الاسم ” البركة ” ويقع في شارع جوهر القائد بحي الحسين بنفس مكانه منذ 160 عاما، والرجل توفي عام 1955 أي قبل عام واحد من صدور الثلاثية، وأبناء ” سي السيد ” في الرواية ثلاثة ذكور وهم ياسين وفهمي وكمال وابنتان هما عائشة وخديجة، لكن ” الأصلي ” كان لديه ولد واحد و6 بنات، وهذا الولد “محمد” أيضا ً توفي منذ فترة بعدما قارب الثمانين، وفي حوار قديم له تكلم عن والده مؤكداً أن شخصية الثلاثية ” الأب القاسي والصارم ومتعدد العلاقات النسائية ” لم تعكس صفات السيد عبد الجواد الأصلي، وقال: إنه لا ينكر أن كثيراً من ملامح شخصية والده تتشابه مع وصف محفوظ لها فيما يتعلق بسمات الحزم والشدة والقسوة في بعض الأحيان.. وفعلاً كان من الصعب عليه وعلي أخواته البنات التحدث إليه مباشرة في أي موضوع وكانت المهمة موكلة إلى والدتهم السيدة أمينة – هكذا كان اسمها في الحقيقة أيضا ً – وكذلك لم يكن مسموحاً لهم بالجلوس معه على طبلية واحدة، فقد كان يتناول إفطاره وحده ثم يجلس محمد مع أمه وأخواته لتناول الإفطار بعد أن يرحل والده، ولكن ” حياة المجون ” وليالي الحظ ومصاحبة العوالم كانت صفات لا تمت إلى حقيقة والده، فقد كان رجلاً صالحاً ودائماً ما يعقد حلقات الذكر داخل محل العطارة الخاص به حتى منتصف الليل، وكان يحضر هذه الحلقات كبار العلماء والشيوخ في مصر وقتها مثل الشيخ محمد أبوالليل وهو من علماء الأزهر الشريف والمقرئون أمثال الشيخ البهتيمي والشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ طه الفشني والشيخ محمد الفيومي المنشد الديني والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان السيد عبدالجواد الحقيقي تربطه صداقة بكبار الكتاب والفنانين وكانت جلساتهم المفضلة إما بقهوة الفيشاوي أو في محل العطارة، وعلي رأس هؤلاء الكاتب الكبير نجيب محفوظ وأنيس منصور والمخرج الكبير حسن الإمام ويوسف السباعي. . والطريف أن من بين أصدقائه أيضاً يحيى شاهين الذي جسد شخصيته سينمائياً فيما بعد، و” الست أمينة ” الأصلية عاشت بعد زوجها ثلاثين عاما وتوفيت سنة 1985، ورغم أن شخصية ” سي السيد ” الحقيقية معروفة.. لكن منذ فترة كشف رئيس مجلس الوزراء السابق الدكتور حازم الببلاوي أن والدته أخبرته بأن ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة وشخصية السيد أحمد عبد الجواد مأخوذة من قصة حياة جده، فوالد نجيب محفوظ كان يعمل بالدائرة التي بها جده لوالدته واسمه محمد عمرو وكان تاجراً غير متعلم ومسرفاً وكثير الزواج.. وكانت آخر زيجة له من ” عالمة ” اسمها زبيدة.. مثل الفيلم.
بيت سي السيد.. قصر
كان السيد أحمد عبد الجواد الحقيقي يسكن بمنطقة الباب الأخضر أمام مسجد الحسين، وكان يتكون من ثلاثة طوابق تم هدمها في توسعات ميدان الحسين سنة 1957، لكن كما في الرواية والفيلم.. فإن بيت سي السيد يقع عند التقاء شارعي النحاسين وبين القصرين، وهو مكون من دورين وبه المشربيات والفناء الترب والدهليز والصالة وبئر الماء العميقة وعدد من الحجرات.. كما يسمح له بوصف مئذنتي مجموعة قلاوون ليعطي ملمحا بارزا من ملامح الجمالية، والمفاجأة أن البيت الذي شهد تصوير ” الثلاثية ” هو أصلاً قصر الأمير بشتاك.. وهو نموذج فريد للعمارة في العصر المملوكي ويقع في شارع المعز بالقاهرة الفاطمية بمنطقة النحاسين بجوار سبيل الأمير عبد الرحمن كتخدا، وأنشأه الأمير سيف الدين بشتاك أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، وبعدما صمد نحو 670 عاماً.. أوشك على الانهيار بعد زلزال 1992 وتم إصلاحه بالاشتراك مع معهد الآثار الألماني، والطريف أن بشتاك هذا كان معروفاً عنه الصرامة والقسوة والإسراف الشديد.. وفي الوقت نفسه كثرة علاقاته النسائية، تماما ً مثل شخصية ” سي السيد ” بالثلاثية.
بين القصرين
يلخص شارع المعز قصة القاهرة منذ تأسيسها إلى الآن، فقد تجسدت فيه جميع مظاهر الحضارة الإسلامية بدءاً من العصر الفاطمي مروراً بالعصر الأيوبي، ثم عصر المماليك البحرية، ثم الجركسية ثم العثمانية، وهذا الشارع كان الرئيسي في القاهرة الفاطمية، ففي البداية أنشأ جوهر الصقلي قصراً للمعز عرف باسم القصر الشرقي الكبير المطل على الشارع ويقابله من الجهة الأخرى القصر الغربي الصغير الذي أنشئ للمعز الفاطمي الثاني.. وموقع هذا القصر اليوم المكان الذي يحتله مسجد الحسين وخان الخليلي ممتداً إلى المكان الذي توجد فيه الآن المدرسة الظاهرية وقبة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وعرفت المنطقة الواقعة بين القصر الشرقي والقصر الغربي باسم ” بين القصرين “، وعندما زرنا الشارع لم نتوقع كم العشوائية التي أصبحت به رغم جماله وروعته وتاريخه.. وكما يقول رجب محمود- 70 عاماً- وهو أحد سكان درب النحاسين: فقد تحول من شارع الملوك الذي كان ممنوعاً على المصريين العاديين دخوله إلى مقر للباعة الجائلين والفوضي، وفي هذا الشارع كانت تدور أولى قصص الثلاثية ” بين القصرين. 
قصر الشوق
في قصر الشوق عاش السيد أحمد عبد الجواد بطريقته وفلسفته الخاصة، ففي الوقت الذي تخشى فيه زوجته وأولاده أن يعصوا له أمراً، كانت الراقصة ” زنوبة ” تفعل به ما تشاء، وفي قلب القاهرة الفاطمية، وبالقرب من مسجد سيدنا الحسين، لايزال قصر الشوق شاهداً على تاريخ عريق رغم تهدم جدرانه، وغير معروف على وجه التحديد سبب التسمية.. فأهل المنطقة يعتقدون أنه يعود للأميرة شوق التي كانت رائعة الجمال أحبها الجميع وتعلقوا بها.. وكان مقصداً للنجوم والفنانين في الستينات، خاصة الذين شاركوا في تجسيد الرواية سينمائيا، لكن الكاتب والأديب الراحل جمال الغيطاني سبق ونفى ذلك وقال: إن هناك روايات تفيد بأن ذلك القصر كانت تمتلكه أسرة عربية في العهد الفاطمي، ورواية ” قصر الشوق ” بالتحديد، وهي الجزء الثاني من الثلاثية، كانت سببا في حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، وقد نشرت عام 1957 وهي تعرض لحياة أسرة السيد أحمد عبد الجواد في منطقة الحسين بعد وفاة ابنه فهمي في أحداث ثورة 1919، وينمو الابن الأصغر كمال ويرفض أن يدخل كلية الحقوق مفضلا المعلمين لشغفه بالآداب والعلوم والفلسفة وحبه وأصدقائه، وكذلك يتعرض لحياة نجلتي السيد أحمد وأزواجهما وعلاقتهما ببعض وزواج ياسين وانتقاله إلى بيته الذي ورثه من أمه في قصر الشوق، وتنتهي أحداث القصة بوفاة سعد زغلول، وبعد فترة حزن يقرر عبدالجواد العودة إلى منزل زبيدة العالمة، ويفاجأ بأن طفلة الأمس زنوبة قد كبرت وأصبحت فتاة، وتستطيع أن تجعل السيد عبدالجواد يقع في حبها وتقنعه بشراء عوامة لها، ولكنها في الوقت نفسه تحب ياسين ابن أحمد عبدالجواد دون أن تعرف حقيقة الأمر وتتزوجه وتدخل أسرة السيد عبدالجواد كزوجة محترمة لابنه، أما كمال فيحب عايدة لكنها لا تتزوجه وتتركه يكفر بالمبادئ والمثل التي آمن بها، وحارة قصر الشوق بمنطقة الجمالية تبدلت أحوالها تماما ً، ولم يبق من معالم قصر الملكة شوق الذي سميت الحارة باسمه إلا بوابة تبدو عليها آثار الإهمال والنسيان، فتختفي آخر معالمه بمجرد عبور البوابة والتي كانت تحيطها أساطير كثيرة، لتجد أمامك ساحة صغيرة محاطة بعدة طوابق يتشارك في سكنها نحو 20 عائلة فقيرة، كلهم يؤكدون أن شكل الحارة في الفيلم لم يعد موجوداً نهائيا ً، بعدما طغت العشوائية على كل شيء، ومعظم البيوت تهدمت وحلت محلها أخرى متواضعة وآيلة للسقوط، وهناك يوجد ” حمام السكرية ” الذي يعد آخر بقايا الحمامات الشعبية بالقاهرة القديمة، وقد تحول إلى خرابة رغم أن تاريخه يرجع إلى 600 سنة.
* الشباب.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *