*د. فارس البيل
إذا كنت تعاني من الإفلاس؛ فعلاجك رواية: “جاتسبي العظيم” لـ فرانسيس فيتزجيرالد.
وإذا كنت تشكو من البدانة؛ فتناول رواية “الصرخة الآتية من بعيد” لـ ريتشارد شريدان.
ولعلاج آلام الأسنان؛ رواية “آنا كارنينا” لتولستوي.
أما من يعانون الأرق فيمكنهم قراءة “اللاطمأنينة” لـ فيرناندو بيسوا
ويمكن التغلب على فوبيا الخوف برواية “مئة عام من العزلة” لـ ماركيز، والتسويف وتأخير الواجبات يناسبه “بقايا النهار” لـ إيشيغيرو.
وللتحكم في التكبر والخيلاء يمكن الاعتماد على “ذهب مع الريح”
لـ مارغريت ميتشل.
وللمصابين بالأنفلونزا الحادة يمكنهم التداوي برواية “البؤساء” لفيكتور هوغو.
أما علاج الاشتياق واللهفة الشديدة فبقراءة “الحرير” لـ ليساندرو باريكو. وللتخلي عن الإهمال فبقراءة “الأمير الصغير” لأنطوان دوسانت.
ورواية “اصرخ يا بلدي الحبيب” لستيورات باتون.. لعلاج الغضب الشديد.
ما سبق؛ ليس مزحة أو شعوذة.. إنها نصائح مهمة من كتاب (العلاج بالرواية: دليل شامل عن العلاجات الأدبية).
The Novel Cure: An A-Z of Literary Remedies
الكتاب الذي صدر في بريطانيا منذ 2013م فقط، وحقق أرباحاً خيالية وشهرة في أماكن كثيرة في العالم، وهو نتاج دراسة علمية استغرقت 25 عاماً، للمؤلفتين: (إلابرثود، وسوزان إلدركن)، وقد قضتا ربع قرن من الدراسة في جامعة كمبريدج حتى توصلتا إلى أن قراءة الروايات تعد من العلاجات البديلة، وأنه يمكنها معالجة أمراض جسدية، وليست فقط نفسية.
ورصدت الدراسة التي تحولت إلى الكتاب واسع الانتشار اليوم أكثر من 700 رواية تعد أدوية لكثير من الأمراض النفسية، بل والعضوية أيضاً.
ربما تشعر بداية أن هذه النصائح تشبه التداوي الشعبي، أو أنها إعلان تجاري رخيص، أو حديث كهنة في عصر التنكولوجيا والرقمنة، أو تعتقد أنها تمثل تهاوياً في النظرة للأدب عموماً وتسطيح له، واختزال لطبيعة الإبداع أو تنميط لقدراته بتأويلات مادية ونفسية عقيمة.
غير أن التداوي بالرواية أو القراءة عموماً ليس حديثاً مستلباً، أو منقطع الأثر؛ ذلك لأن الكتب والعلوم في أساسها إنما كتبت لمداواة الإنسان، والإجابة عن تساؤلاته، والترفيه عنه، والإسهام في حل مشكلاته وتفسير ما يجري حوله قدر المستطاع.
لذلك صار ثابتاً وفي محل الحقيقة بين الكتّاب والقراء أن الكتب هي أفضل الأصدقاء، كونها تمنحنا فرصة التدرب على التفاعلات مع الآخرين في العالم، بما يقدمه الصديق من عون نفسي وأنس وود دائم، ويشكل حالة من السلامة الروحية للآخر.
منذ القدم كتب الإغريق القدامى فوق مدخل إحدى المكتبات أنه (مكان لشفاء الروح). وقد تطورت هذه الممارسة تلقائياً في نهاية القرن التاسع عشر، حين بدأ (سيغموند فرويد) بعد الحرب العالمية الأولى باستعمال الأدب خلال جلسات التحليل النفسي للجنود المصدومين والعائدين إلى ديارهم من جبهة القتال بنصحهم بقراءة بعض الروايات، كما تدرب أمناء المكتبات في أميركا على مهارات تقديم الكتب إلى المحاربين القدامى في الحرب العالمية الأولى، وشاع استعمال روايات (جين أوستن) لغايات علاجية في الوقت نفسه في بريطانيا.
ثم تطور مفهوم العلاج بالقراءة حتى أصبحت المستشفيات والمكتبات تعتبره نوعاً من أنواع التداوي الفاعلة، ولم يكن غريباً أن يستعمله علماء النفس والأطباء والاختصاصيون الاجتماعيون والعاملون في مجال الرعاية بالمسنين.
قديماً قال شكسبير في مسرحية (تيتوس أندرونيكوس): “تعالوا واختاروا ما تشاءون من مكتبتي كلها وتناسوا بذلك همومكم..”.
ولعل الفيلسوف والمحلل النفسي الكبير (إريك فروم) (1900-1980)؛ أوصى بدراسة بعض النصوص الأدبية كأعمال بلزاك ودوستويفسكي وفرانز كافكا؛ حيث يُمكن العثور فيها على الكثير من التبصر العميق للإنسان الذي لا يُوجد في الكتابات التحليلية النفسية.
وربما يشدك مقالٌ نشرته (نيويورك تايمز) في أكتوبر 2013م بعنوان “العلماء ينصحونك بتناول شيء قليل من تيشيكوف (الأديب الروسي الشهير) لكي تحظى بمهارات اجتماعية أفضل”. وقد قيل إن الروائية جورج إليوت تجاوزت حزنها على فقدان شريك حياتها عبر برنامج من القراءة النوعية المنتظمة.
إذن؛ فالعلاج بالقراءة مصطلح واسع جداً يُستعمل للإشارة إلى الممارسة القديمة التي تقضي بالتشجيع على القراءة لأهداف علاجية. وربما أن هذا المصطلح استعمل للمرة الأولى في مقالة (عيادة أدبية)، نشرت في عام 1916م في مجلة The Atlantic Monthly ، يصف الكاتب فيها كيف عثر على معهد خاص بمحبي القراءة عبر شخص يدعى (باغستر)، كانت مهمته تقديم التوصيات بشأن الكتب التي تحمل قيمة علاجية. ومبرر باغستر في ذلك أن “العلاج بالقراءة هو علم جديد. قد يكون الكتاب منشّطاً أو مهدئاً أو مزعجاً أو مخدّراً. المهم هو أنه يؤثر بالقارئ بطريقةٍ ما ولا بد من اكتشاف ذلك الأثر. قد يكون الكتاب بطبيعته أشبه بشراب مهدئ أو ضمادة شافية”. فمثلاً يقدم باغستر لمن يحمل آراءً متحجرة، روايات وقصص مؤثرة على رأسها (جورج برنارد شو).
من الناحية الطبية يتناول بحث علمي حول آثار القراءة على الدماغ استناداً إلى تحليل مسوحات دماغية بتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي لعينة من الناس، تبين أن الذين يقرأون عن تجربة معينة يسجلون إشارة تحفيزية ضمن المناطق العصبية التي تنشط حين يخوضون تلك التجربة بنفسهم. ونُشرت دراسات أخرى في عامَي 2006 و2009 وتوصلت إلى نتيجة مماثلة: الذين يطالعون الكثير من مؤلفات الأدب القصصي، يتعاطفون مع الآخرين أكثر من غيرهم. وفي عام 2013، نُشرت دراسة مهمة في مجلة (العلوم) واستنتجت أن قراءة الخيال الأدبي تحسن نتائج المشاركين في الاختبارات التي تقيس درجة الإدراك الاجتماعي والتعاطف.
والآن بات العلاج بالقراءة أمراً اعتيادياً بل مهماً في كثير من الدول، فهناك شبكة من المعالجين بالقراءة يتم اختيارهم وتدريبهم بعناية، كما يتخذ العلاج بالقراءة أشكالاً مختلفة، بدءاً من الدروس الأدبية التي تُعطى للسجناء وصولاً إلى أوساط القراءة المخصصة لكبار السن المصابين بالخرف على سبيل المثال، وهناك عيادات ومؤسسات مختلفة وأفراد يقومون بهذا الأمر، ومن ذلك (مدرسة الحياة) التي تنشط حول العالم من نيويورك إلى ملبورن. ويتلقى المعالجون فيها تدريبات من مؤلفتي الكتاب السابق، تتعلق التدريبات بأبرز الاضطرابات التي يحملها الناس في حياتهم.
وينبغي الذكر؛ أن الكتاب الذي عنيناه يسمح عقد نشره لأي محرر محلي واختصاصي في القراءة باقتباس حتى 25% من الاضطرابات وتوصيات القراءة بما يناسب القرّاء في كل بلد تزامناً مع إدراج عدد إضافي من الكتّاب المحليين والروايات المحلية في ذلك البلد وبتلك اللغة. فمثلاً في النسخة الهولندية، تتعلق إحدى الاضطرابات المقتبسة بالمبالغة في تقدير قدرات الطفل. وفي النسخة الهندية، طُرحت مواضيع التبول في الأماكن العامة. كما أدرج الإيطاليون من جهتهم مفاهيم العجز والخوف من الطرق السريعة. وأضاف الألمان مواضيع كره العالم. وتعمل المؤلفتان الآن على إصدار نسخة أدبية للأطفال، من المتوقع أن تصدر في عام 2016م.
يبقى أمر العلاج بالرواية أو الكتاب عموماً -حتى لو لم نوافق على قدرة القراءة على فعل هذا العلاج أو السحر النفسي- يبقى منهجاً يساعدنا في تعاملنا مع أنفسنا أولاً ومع الآخرين أيضاً، ولا بد للقراءة أن تترك أثراً ما أو سلوكاً معيناً لا يمكن التقليل منه، كما أن القراءة تضع الإنسان في حالة من النشوة والمتعة والتأمل والتفاعل، تشبه أو تزيد على تلك الطرق الصحية التي تساعد على الاسترخاء العميق والهدوء الداخلي وتقاوم الاكتئاب ومستويات الضغط النفسي، فضلاً عن أن القراءة تمنحك الثقة والتجربة والخبرة وتزيد من قدرتك على التعامل مع المواقف والحياة، وتزيد من رصيدك في حياتك والمجتمع من حولك.
____
*هافينغتون بوست