أيام متمردة


نـبيـل عـمـــــر*


الحاجة أم رجب هي جدتي، بيضاء وجهها مثل اللبن الحليب، هيفاء جميلة ولا فاتنات السينما، عينان خضراوان وشعرها طويل ناعم أسود من الليل.. 
قبل أن يفر الفجر من بين براثنه ويشقشق على الكون، لكنها كانت فلاحة مصرية صارمة، لا تقبل أنصاف الحلول ولا ” الدلع المرِء”، وتمشي في ثبات مثل شجرة سنط لها جذور في الأرض، وعيت عليها حين ذهبت للعيش معها في “إبخاص”، قرية صغيرة بالمنوفية، بين الباجور وسبك الضحاك، وكنت في الصف الثاني الابتدائي، وعلي الفور أرسلتني إلى كتاب الشيخ متولي كل مساء، لأحفظ جزأي عّم وتبارك.. وما أدراك من هو الشيخ متولي وخرذانته اللولبية من البوص اللين الذي ينمو على ضفتي الرياح، تسقط على أجسادنا النحيفة كأشهر حارق ساقط من السماء، فلا تتركه علاماتها الحمراء وخطوطها الزرقاء إلا بعد أيام قد تمتد أسبوعا.
وذات ليلة ليس فيها بهرجة هذه الأيام من أضواء وزينات، فالأرياف غارقة في عتمة الليل دوما والكهرباء ترف لم تسمع به، والنَّاس تنام غالبا بعد صلاة العشاء، نادت جدتي عليَّ: تعالي يا ابن “رجب”، غدا أول رمضان سنصوم جميعا، ولو عايز تروح الجنة وربنا يرضي عنك لازم تصوم.
أجبت مستسلما: حاضر يا ستي.
ولم أسألها قط: لماذا كانت تناديني بـ” ابن رجب” دون اسمي، ولماذا منحها أهل قريتنا لقب “الحاجة” ولم يسبق لها أن طافت حول الكعبة، وصلت في الروضة الشريفة؟!
ورجب هو الاسم الثاني من اسمي ابي المُركب (السيد رجب)، وقد اختاره جدي تيمنا بالشيخ “رجب”، الذي كان يقاتل مع أحمد عرابي في موقعة التل الكبير أمام الإنجليز خلال دخلوهم مصر محتلين، واستشهد وراج أن الخشبة التي كانوا يحملون فيها جثمانه إلى المدافن طارت وحطت لوحدها أمام مدفنه، في “عزبة” تبعد عن قريتنا بضعة كيلومترات، فإذا كان رجب شيخا مباركا، فأبي هو ” السيد” رجب، الابن الوحيد علي بنات تجاوز عددهن الدستة.
لكن لاحظت دائما أن العلاقة بين أبي وجدتي فيها حميمية ناقصة، دفء غير مكتمل، لم أره أبدا يقبل يدها أو ينحني تحت اقدامها كعادة أهل الريف المرتبطين وثيقا بعائلاتهم في ذلك الزمان.. سمعت حكايات كثيرة، فأبي تزوج من أمي على غير هواها، وكانت جدتي قد جهزت له عروسا وكلمت أهلها.. ثم صرفت كل مليم تملكه تعويضات عن تصرفات أضرت ماديا بالآخرين، سيارة دخل بها في شجرة، خسارة في تجارة جرب حظه بها، وأشياء صغيرة من هذا النوع، وكانت تعض بأسنانها ونواجزها على هذا الميراث من جدي لستر بنتيها ” شفيقة وفتحية اليتيمتين، لكن لم تنقطع علاقتها به، كانت هي تزورنا قادمة من البلد في ” سفينة ركاب نيلية” كنت تبحر صباحا في رحلة يومية من قرية ” القرنين” إلى ساحل روض الفرج، وتصل في المساء.. وألغيت في أوائل الستينيات وحل محلها أتوبيس بين شبين الكوم والقاهرة مارا بالقري الداخلية بعيدا عن الطريق الرئيسي.
كان جدي قد رحل عن دنيانا في منتصف الأربعينيات، وترك جدتي في عز شبابها، لم تكن قد بلغت الثلاثين، فحاجت على البنتين، ولم تقدر على أبي الذي كان جامحا متنقلا، وعاشت لهما حتى زوجت شفيقة من عائلة أبو الريش، شابا يعمل في المنصورة ورحلت معه، وزوجت فتحية من موظف في وزارة المالية عاشت معه بالجيزة.
واستقرت هي في دارنا بإبخاص، ومعها أختها الصغرى أمينة “قمر أربعتاشر”، بعد أن مات زوجها أيضاً وتركها صبية وكانت هي الزوجة الثانية في آخر أيامه.
بالرغم من صلابة جدتي وصرامتها وقسوتها الظاهرة إلا أن “رقتها المخفية” كانت تغلبها حين يقع ابنها رجب في مطب سيئ، وما أكثرها بسبب ولعه بالنساء، فتفعل المستحيل لتخرجه منها بكل السبل، وكانت مسموعة الكلمة في قريتنا والقري المجاورة ، فهي صاحبة حكمة وبصيرة “وحقانية”، ولا تماطل ولا تكذب لو كان على رقبتها. وكم من مرات حضرت معها جلسات كانت هي الحكم بين “رجال” بـ”شنبات” يقف عليها الصقر، فتعلمت منها الصدق وكراهية الظلم.
كانت تعاملني بجدية، خافت عليّ من “التدليل” الذي حَمَلتْهُ سبب استخفاف ابي بأشياء مهمة في الحياة، إذ دلع جدي ابي بإفراط مبالغ به، يعوض به حرمانه من “خلفة” الولد لأكثر من خمس وثلاثين سنة زواجاً وتسع زوجات.. فحرصت جدتي ألا أنال منها أي “فتفوتة” دلع، وحين أجبرتني على الصيام ولم أكن قد تجاوزت الثامنة، لم تتركني وحدي لحظة، وأجبرتني أنا اجلس معها، سواء ذهبت إلى “الزربية”، أو قعدت أمام الفرن تخبز، أو راحت إلى غيط عّم فتحي تطلب منه “عودين ملوخية”..
وحين تهاويت بعد العصر، أخذتني في حجرها، تطبطب على ظهرها قائلا: لما تصوم ربنا يحبك ويعلي مراكبك ويوقف لك أولاد الحلال في سكتك، ووشك يوم القيامة يبقي أبيض وجميل..
ومن يومها على كلامها طوال عمري.
وذات مرة طلبت من أمي أن أسافر كعادتي كل صيف إلى قريتها ” كفر مناوهلة بعد امتحان آخر العام، لكن أمي كانت “واخدها” على خاطرها من خالتي مَنْبِية، فرفضت، وضاعفت كل “محايلاتي” في الهواء، فاستيقظت صباحا، لميت هدومي في شنطتي، وطرت إلى “مطار المنوفية” أمام الجامع الهجين بشبرا، ومنه إلى البلد.
قعدت الثلاثة أشهر مثل كل عام مَرَحا ولعبا وسباحة في بحر شبين، وهزارا وسهرا على رأس غيط خالي خطاب وأمامنا “مَنْقَدْ” يتوهج فحمه وحطبه، وبراد شاي وأكوام من كيزان الذرة مجهزة للشواء.
وحين عدت منتشيا، وجدت جدتي في شقتنا..
قالت لي أمي: ما فعلته لن أسامحك فيه، تسافر من غير ما تقول لي، ودورت عليك يومين، وعرفت أنك في البلد.
أما جدتي، فما كدت اقترب منها فاتحا يدي، إلا وهوت بكفها على صدري، وأمسكت بي وقرصتني “قرصة دم” من بطن فخذي، يبدو أنها دامت دهرا، كما لو كانت نوعا من التعذيب في القرون الوسطي، التعذيب المخيف الذي قرأت عنه في روايات رافائيل ساباتيني كاتب إنجليزي من أصل إيطالي..
“قرصة واحدة ظللت أبكي من آلامها ساعتين على الأقل بالرغم من الماء البارد الذي غسلتها به، وصاحبتني علامتها شهورا طويلا، واذا وضعت يدها عليها يحل الألم بها.
بعد سنتين أو ثلاث، سافرت إلى جدتي، وقَعَدت عندها أسبوعين..
وفي لحظة صفاء سألتها عن تلك القرصنة الرهيبة..
أجابت بسلاسة: ستظل طول عمرك تفتكرها ولن تعمل خطأ مماثلا مرة ثانية.
سألتها جادا: لماذا ينادونكِ يا “حاجة أم رجب”؟
أجابت بنفس البساطة: رأيت النبي في منام وأنا بنت صغيرة، يمكن قبل ما أتزوج جدك بسنتين ثلاثة.. ومن يومها اخذت لقب الحاجة، ولما خلفت أباك قالوا الحاجة أم رجب
أمسكت رقبتي وضمتها إليها في حنو: يعني قبل ما تشرف حضرتك بأربعين سنة.
سألتها ضاحكا: هو صحيح لماذا لم تتزوجي يا حاجة بعد موت جدي؟
أمسكت بطن فخذي قائلة: “شكلك ماحرمتش”.
ثم قامت للصلاة.
* الأهرام.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *