إسراء النمر*
ما من أحدٍ عاد من الموت ليقول لنا شيئاً؛ هل تألم؟ هل بكي؟ هل أحس بوحشة؟ هل احتفى به الراقدون؟ هل اتخذ منهم صاحباً؟ أم أنه لم يشعر بأي شيء؛ رقد ببساطة علي ظهره، وأغلق عينيه، ونام. لكن هناك من عاد من غيبوبة، من عملية جراحية، من موت محتمل، ليحكي، ويبكي، ويخبرنا عن معركته، التي هزمته، وانتصر عليها بالكتابة، مثلما فعل الشاعر أسامة الدناصوري، والروائية نعمات البحيري، والأديب جمال الغيطاني، بأسبقية الرحيل، وأيضاً كل من الشاعر علاء خالد والناقد الأدبي سيد البحراوي اللذين قررا مواصلة الحياة. هؤلاء استطاعوا أن يتصالحوا مع أجسادهم، ويتحدثوا عنها بلا تحفظ، ربما لأنهم أدركوا من بداية مرضهم أنها لم تعد لهم، وأن ليس ثمة طريقة أخرى للمقاومة.
في كتابه “كلبي الهرِم.. كلبي الحبيب” ذكر أسامة الدناصوري (1960- 2007) أن حالته تحسنت بالكتابة، حالته النفسية على الأقل، فقد مرت عليه ثلاث سنوات لم يكتب فيهم حرفاً، وحين أخبر زوجته سهير في إحدي الليالي الأبريلية عام 2006 أنه سيكتب شيئاً، لم تهتم كثيراّ، ربما لأنه عوّدها هي وأصدقاءه وأقاربه على أن يحكي لهم آلامه شفهياً، إلى أن خرجت الكتابة دفعة واحدة، وما كان عليه سوي أن يفرّق بين حالات الكتابة التي تأتيه في هذه الأيام، وتلك التي كانت تأتيه حين كان يكتب الشعر؛ “لقد غزوت أرض النثر مرات معدودة من قبل. في كل مرة كنت أتسلل علي وجل واستحياء، وأعود سريعاً، بعد أن أختلس ثمرة صغيرة. الآن، بعد أن تجرأت وتوغلت قليلاً، أوشك علي أن أقول: بائس هو الشاعر الذي لم يعرف النثر أبداً”.
من خلال الكتابة عرف أسامة الدناصوري أن المرض هو الخيط الذي يلضم حياته كلها، منذ مولده، حين اكتشف والداه – وهو عمره 15 يوماً – أن عضوه الصغير ينتهي بغلافتين مما يعيق انسياب البول ويسبب الاحتباس، ليقرر الطبيب أن يجري له الختان سريعاً، لكنه أمضي حياته وصدر شبابه يعاني من احتباس بول في النهار، وتبول لا إرادي في الليل، ما فرض عليه طقوساّ أشبه ما تكون بعبادة سرية، كأن يعتاد كل ليلة أن ينام بعد أن يفرش المشمع تحته، الأمر الذي اكتشفه زميل دراسته محمد قدري الذي كان يسكن معه شقة الإسماعيلية، وجعلهما ينفجران في الضحك، فقد أوقعه التبول اللاإرادي في مواقف محرجة، أبسطها أنه كان يفاجأ دوماً ببقعة صغيرة علي بنطلونه؛ “إنني مدينٌ لهذه المواقف، بل مدين للتبول اللاإرادي ذاته، إنه النار الهادئة التي نضجتُ عليها”.
لم يخجل أسامة الدناصوري من سرد هذه التفاصيل شديدة الخصوصية، تحدث عن جسده كأنه لا يخصه، ربما لأن أعضاءه أسُقطت عنها السرية من اليوم الأول حين أصبحت مكشوفة لأعين كثيرة: أعين الأطباء أولاً، ثم أعين الممرضات، وأخيراً بعض المرضي المتلصصين، لذلك رأي نفسه محظوظاً حين انتقل من خانة مرضى المسالك البولية إلي خانة مرضي الكلي. قال: “ظللت مريضاً حوالي 22 عاماً ثم شُفيت بالفشل الكلوي”. لم يكن سعيداً بالطبع بمرضه الجديد، كان همه أن يرتاح من عذابات الاحتباس والارتجاع والتبول اللا إرادي؛ “خرجت من العيادة بائساً، ممتلئاً بالبكاء والرثاء لحالي. رغم أنني أعلم أن هذا اليوم آت لا محالة. إلا أنني فوجئت كمن سمع حكماً بإعدامه أو حبسه في حفرة تحت الأرض لباقي حياتي. كان وقع كلمة فشل كلوي أو غسيل كلي علي المسامع أشدّ ضراوة من وقع كلمة سرطان”.
لكن السرطان الذي هاجم نعمات البحيري (1953 – 2008)، كان بمثابة خيانة، أسوأ الخيانات التي يمكن أن تتلقاها أي امرأة، وتجعلها تشعر بالهزيمة، ليس فقط في أعين الناس، بل في عينيها. وفي محاولة منها لتجاوز النكبة كتبت “يوميات امرأة مشعة” بعدما نصحها أحد الأصدقاء أن 60٪ من العلاج هو الحالة المعنوية؛ “حين عرفتُ أنني مصابة بالسرطان ابتسمت وتذكرت أيام انشغالي بفكرة الخلود والأبدية منذ طفولتي، وضحكت ساخرة من فكرة حصاري بالموت الذي يدفعني دفعا لتجاوزه بإرادة فولاذية، لا لشيء، إلا لأجل الحياة نفسها، على الرغم من أنني لم أعش المباهج التي حلمت بها في الحب والزواج والأطفال، وإحراز طموح أدبي يليق بتعب وشقاء وصدق موهبة”.
كان السرطان يعرف طريقه جيداً، استوطن صدرها، تلك القطعتان اللتان لم تتصالح معهما بسهولة؛ “كنت أشعر بعبء امتلاء الحمالة بثدييّ علي نحول جسدي، وبوادر شيء تحاصرني من أجله عيون شباب الحي، وأنا أخفيه باحتضان حقيبة المدرسة كأنه عيب خلقي”. كانت نعمات البحيري أول فتاة ترتدي حمالة صدر بين زميلاتها في المرحلة الإعدادية، وجاهدت في إخفاء الأمر، لكنها فوجئت في يوم بإحدي البنات تغلق باب الفصل، وتأمرهن بنزع ثيابهن الفوقية، وبالأخص هي، فعرفت أن الحمالة الساتان السوداء هي الهدف؛ “لم أكن أدري أن هذا سبق أحسد عليه وأحاصر من أجله بعيون مضطربة وأجساد نحيلة.. كان عليّ أن أوافق لتتبادله بنات الفصل في فرح وبهجة تفتح بواكير أنوثة الجسد والروح”.
هذه الذكريات جعلتها تشعر أن ثمة مؤامرة ضدها، وإلا لماذا استهدف السرطان هذا الجزء تحديداً؟! أدركت نعمات البحيري أن ديمقراطية المرض وهم كبير، وأن لا مفر من المصير المعروف، خضعت إلي عدد هائل من الأشعات، وإلي العلاج الكيماوي، صارت امرأة بثدي واحد، تواجه به العالم، والأعين التي تتفحصها بشفقة، كأنها مخلوق غريب. هي نفسها كانت تشفق علي هيئتها في المرآة، وتشعر أنها كائن فضائي، لكنها – رغم كل هذا – لم تستسلم؛ “أدرك علي نحو ما أن الألم يخجل ويتواري من مقاومتي وصمودي، فأجلس لأكتب أو أقرأ أو أحدث أصدقائي في التليفون، ونضحك ونحكي ونشكو ونبكي ونعرف ونسخر ونرثي أو نبارك. أدرك أن هذا المرض يخشي الحب، فيفر حين يجدني مُحاطة بحب الأصدقاء ورعايتهم”.
هرب جمال الغيطاني (1945 – 2015) أيضاً من آلامه بطرق شتي. هو المتعدد، الممتلئ، صاحب التجليات، الذي يؤمن أن لا شيء يبقي، وأن الخلود وهم، كما يؤمن أيضاً أن الحياة جميلة، وليست عبثية، لذلك حين أصاب المرض قلبه، ظل حيادياً، هادئاً، يصغي إلى الكون الذي يعيش فيه، ويرسل سلامه إلى كل الأشياء التي يحبها؛ إلي النخيل وأشجار الجميز وقبة قلاوون ومآذن القاهرة، إلي الشيخ إمام والشيخ محمد رفعت والشيخ طه الفشني، إلى الفنان المجهول الذي رسم مقبرة سنجم رع، وإلى كل من سعى بالعلم والحكمة من أمنحتب إلى نجيب محفوظ. ففي كتابه “كتاب الألم”، الذي يضم ثلاثة كتب هي (الخطوط الفاصلة/ يوميات القلب المفتوح) و(مقاربة الأبد) و (أيام الحصر)، تجلت مقاومته، فقد حرص طيلة حياته ألا تنطلق منه أي آه، وأن يحوش كل دمعة؛ “ذلك أن الحال الذي خرجتُ عليه من بيتي لا يساعد علي ذرف الدمع، إنما يمسك بالشجن”.
في الخامس من يوليو عام ستة وتسعين.. في هذا الصباح بدأ جمال الغيطاني رحلة علاج صعبة، رحلة خروج بلا عودة متوقعة، سافر إلى الولايات المتحدة بصحبة زوجته ماجدة الجندي، وفي يومه الأول بمستشفى كليفلاند، رأى رجلاً زنجياً فوق كرسي متحرك، يمر تحت أنفه أنبوب الأكسجين، لم يستوقفه حالته، إنما نظرة الاستسلام من عينيه في اتجاه اللامدى، اللامحدود، ذلك الاستسلام الذي عرفه فيما بعد؛ “كنت متعايشاً مع التسليم، دانياً من الاقتناع بقطع الرجاء حتى لا يرهقني الأمل، ويبدد ما تحقق من سكينتي”، كان كلما اشتد عليه الوجع تسلح بوجه ماجدة، وبالموسيقي الإيرانية، وبسورة النجم، وبالكتب التي اصطحبها معه وبصبر الأولياء الذين لم يغيبوا عن باله لحظة، فكان رغم حاجته إلي الشفاء لا يريد أن يغيب عن الوعي.
لكنه غاب، وأجرى عملية القلب المفتوح التي أوصلته إلي أقصي مراحل التأمل، عندما وجد نفسه يتحول إلى خطوط على شاشة المونيتور، كل ما عاشه من مشاعر وصبوات وأحزان، كل ما قطعه من مسافات في الزمان أو المكان يتلخص في أرقام؛ “أما الجسد نفسه فيفقد القدرة على المبادرة، يمتثل فقط، يصبح موضوعاً للفحص، موضوعاً للبحث السريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، التمدد علي الظهر هو الوضع المعتاد في غرف الإنعاش، التجرد تماماً من الملابس، والبديل روب مفتوح من الخلف، هنا يفقد العري معناه، يصبح الجسد مستباحاً تماماً لأهل الاختصاص، لا خجل.. لا تردد”. هذا الضيق الذي أصاب شرايين جمال الغيطاني، لم يضيق عليه اتصاله بالعالم، لقد رأى حركة الحياة في قلبه، حين أصغي إلي تدفق دمائه، فسمع أصوات الرياح والنسمات واصطدام الأمواج، وقتها فقط عرف لغز الوجود.
لم تكن الحياة هي التي تشغل علاء خالد (1960)، أثناء تجربة مرضه الصعبة التي وثقها في كتابه “مسار الأزرق الحزين”، بل الموت، الذي يحف به من كل الجهات، فقد كان يجده في أي ركن بالمستشفي، وفي وجوه الأطباء والممرضين، وفي الأشياء؛ بداية من السرير، لأدوات الطعام، والأطباق، وأجهزة التنفس، وقياس النبض، وشاشات رسم القلب، حتى أصغر صنبور تتدفق منه المياه، لأن “كل شيء ينظر له الميت يكتسب من صفته”، حتى هو قد مسه الموت، وصار رفيقه الذي يتحدث باسمه وينوب عنه في كل مهامه وأشغاله اليومية؛ “قربي من الموت كان يضاعف المسافات، بل يضاعف من كل شيء: الحواس، السكون، وصوت تلك الأقدام الحافية على الأرض الملساء”، ما جعله يسعد حين وصفه أحد أصدقائه بالمقاتل، كونه لم يستسلم بسهولة، واستطاع النجاة من معركته مع الموت، أو مع الحياة؛ “سيان، كلاهما له نصل في غاية الرهافة وغاية الحدة”.
دخل علاء خالد هذه المعركة رغماً عنه، فلم يكن يهدف من دخوله المستشفى الذي تجاوز عتبتها بطمأنينة، سوى أن يجري عملية بسيطة لإزالة عدة حصوات في المرارة، ليجد نفسه متورطاً في معاناة أخرى، ظن أنها محض مضاعفات من تأثير البنج، لكن الطبيب المعالج له صارحه قبل إجراء العملية الثانية، أن خطأ قد حدث، جراء يده المرتعشة، المترددة، التي ثقبت أمعاءه؛ “لم أتوقع أن يأتي خطأ بهذه الفداحة من الآخرين، بل من نفسي، من شيء كامن فيها”. هذا الخطأ أدخله في مواجهة جديدة مع الحياة، فكان يخبر من يتردد عليه أن سريره ليس ضيقاً، بل واسع للغاية، يسع كل خيالاته وذكرياته، وأنه صار لا يخشي الموت؛ “ربما لأني كنت أقف في حضرته، في مركزه، حيث النقطة التي تتلاشى فيها القوى، هذا المكان الخفيف، المنهك من التجاذبات”.
لم يكن يعرف علاء خالد، ما الذي يفعله بحياته الجديدة التي مُنحت له، ربما مفاجأة النجاة عقدت شعوره، وجعلته لا يشعر بقيمة هذه الهبة، أو أن هذه الهبة تحتاج لزمن يحس بوقعها في قلبه، لقد بُعث من الموت، ليجدد عهده مع الحياة، ومع نفسه، ومع الآخرين، خصوصاً مع زوجته سلوى رشاد التي كان يخشى أن يتركها وحدها، فكان اختطاف الموت لأحدهما معناه عذاب لا يحتمله الآخر بمفرده؛ “قلت لها تحت تأثير المخدر إن هذه الحياة الجديدة ليست لي، ولكنها لها، وإن الحَجَرة العثرة الكبيرة التي كانت تقف في مسار الحياة قد زالت، وكل ما سيأتي سيكون جرياناً حراً بدون عوائق”.
أما سيد البحراوي (1953) فصارت الحياة عنده بلا جدوي، يمكث في بيته لأيام طويلة، لا يريد الخروج منه، يفكر في الموت، وما ينبغي أن يفعله قبل أن تحل هذه اللحظة؛ “كل ما أريده ثورة حقيقية، لا يبدو أنها يمكن أن تتحقق قريباً. فقط، ربما أحب القيام برحلة بحرية بين شواطئ المتوسط أو نيلية في جنوب مصر”، لذلك فهو لا يشعر بقلق إزاء الموت، ولا يشعر بالندم علي ما فعله، وما فاته، فقبل أن يكتشف مرضه بسرطان الرئة، كان يشغله موضوع الألم كفكرة وفلسفة، وشغف به قبل أن يبدأ علاجه، فمن خلال الألم استطاع الإنسان أن يُبدع وينتج فناً عظيماً؛ “كان غريبا، وغير مفهوم، أن يهتم مثلي – الناقد الماركسي – بموضوع الألم طوال العام الماضي. الآن فهمت”.
وجد سيد البحراوي نفسه يكتب يومياته تحت اسم “في مديح الألم”، رغم أنه يقول: “أعترف بأن خيالي محدود في الإبداع، لكن حدسي وعقلي يعوضانه في الدراسات والعلاقات الإنسانية”، لكنه كان يحاول أن يستخرج أقصي ما به، حتى لو اكتفى بتدوين سطر واحد، يعلن فيه أنه غاضب، أو أنه لن يتابع الفيس بوك، أو أن الأخطاء اللغوية التي يقع فيها الرؤساء تؤكد أن ليس هناك عروبة، كأنه يتعمد تجاهل المرض؛ “لست منزعجاً، أعرف أنني سأواصل الحياة، إن لم يحدث خطأ فادح في العلاج، لديّ أشياء مهمة أظن أنها قد تفيد الآخرين”. حين دخل سيد البحراوي في غيبوبة قصيرة بعد تعرضه للأشعة المقطعية، وبعد أن استرد وعيه، طلب سيجارة، لكن جميع من حوله منعوه تنفيذاً لتعليمات الطبيب، الذي أخبرهم أن أي تدخين قبل مرور ساعتين على الأشعة قد يعرضه لنزيف، فقاومهم بعنف، وواصل التدخين على نفس الوتيرة التي اعتاد عليها، ليثبت لهم أن لا سلطة للمرض عليه.
لم يكن أمامه سوى أن يظل صلباً، وأن يستمتع بكل لحظة تمر عليه، لم يكن يريد أن يجعل مرضه القاتل مانعاً لحياته وحيوات من حوله، لكن يبدو أنه لم ينجح فيما يخصه هو، أما بالنسبة للآخرين فقد كانوا بالفعل يعيشون حياتهم، بالطبع مع الاهتمام به. يحاول سيد البحراوي أن يعيش بأقل قدر من الألم والتعاسة، وبأقل قدر ممكن من إزعاج الآخرين.
* أخبار الأدب.