يوسف زيدان*
«مصر مهد التوحيد».. هذه العبارة الشهيرة التي يرددها معظم المصريين وهم في حالة ابتهاج وهمي دال على عدم الفهم، تشير بوضوح إلى أن الملك المصري القديم، أو الفرعون «هذه الكلمة تعني حرفياً: البيت الكبير – بر- عا» المعروف باسم إخناتون، كان على زعمهم هو أول من وضع أساس التوحيد.. وقد اشتطَّ كثيرون، حتى من الأذكياء أمثال فرويد، وخلطوا التاريخي بالديني وجعلوا النبي موسي «التوراتي» تلميذاً أو امتداداً للفرعون المصري القديم، كما يظهر لنا من كتاب سيجموند فرويد: موسي والتوحيد.. لكن ذلك كله يحتاج مراجعة، وضبطا.
تاريخياً، بدأت حالة الهوس والخبل الديني مع الملك الأب «آمون حتب رع» الذي يكتب اسمه: أمنحتب الثالث. فقد أصابت عقل الرجل لسعة، فدعاه العبطٌ إلى الزعم بأنه الصورة الكاملة لآمون، وطلب من الكهنة أو بالأحرى أرغمهم على السير به محمولاً على محفة آمون، وقد جلس على كرسي الإله الأعلى الذي يعني اسمه حرفياً: المحتجب، المتعالي، اللامرئي «آمون، آمن، آمين» وهو الأمر الذي أحدث صدمة دينية شديدة في ذلك الزمان، ويقال إن الفرعون فعل ذلك ليضع يده على الثروات التي كانت بيد الكهنة في المعابد.. تولي بعد الأب المهووس ابنه الأشد هوساً «آمون حتب الرابع» الذي يعرف بالاسم الذي اختاره: آخن آتون، أو أخناتون.
لم تكن الحركة التي قام بها أخناتون حركة توحيد بالمعني الذي نفهمه الآن من هذه الكلمة، وإنما كانت في حقيقة الأمر نوعاً من تحريم عبادة آمون، لصالح إله مصري قديم هو آتون «كان معبوداً مصرياً محلياً في الزمن السابق على عصر أخناتون بقرون» وهدم أخناتون معابد آمون وجعل أحجارها لبنات بني بها مدينته المقدسة «أخناتون» في الصحراء لتكون مركزاً لعبادة الإله الذي تم استبداله بإله آخر. آتون المتمثل في شعاع الشمس، بدلا من آمون الذي يطل على البشر من خلال قرص الشمس، وأدي ذلك الاستبدال وقهر الناس على عبادة هذا الإله دون ذاك إلى فوضي كبيرة بالبلاد. وتدهورت أحوال مصر وتآكلت حدودها وعاث فيها الفاسدون والمواطنون غير الشرفاء وسكان العشوائيات، ومات أخناتون في ظروف غامضة، وحاول وريثه على العرش «توت عنخ آمون» إصلاح الأحوال واستبدل بآتون آمون، مجدداً، لكن الأمور لم تستقم معه ومات هو الآخر في ظروف غامضة. ولم تقع الفوضى فقد فوض المجلس العسكري القائد الجنرال «حور محب» في حكم البلاد، وتولي من بعده زميله الجنرال «رع مسيس» المعروف عند العامة اليوم باسم: رمسيس الأول، وتولي من بعده الجنرال ست تي المشهور باسم «سيتي» وتولي من بعده الجنرال رمسيس الثاني.. واستمر المسلسل وتوالت حلقات السلسلة السلطوية بالانتقال من قائد عسكري إلى قائد آخر. وعاد «آمون» هو المعبود الأعلى في سائر البلاد، وفشلت محاولة أخناتون لإزاحته ووضع الإله «آتون» في مكانه.. فهل هذا هو المقصود من العبارة الشهيرة: مصر مهد التوحيد!
أما «التوحيد» عند اليهود فحاله عجب، ليس فقط من حيث تعدد صورة الإله الأعلى وأسمائه: يهوه، ألوهيم، الرب، رب الجنود، أهيه الذي أهيه.. وإنما أيضاًً بنص السفر الأول من أسفار التوراة «سفر التكوين حيث يقول النص الديني بالحرف الواحد على لسان الإله الأعلى حين أكل آدم من الشجرة المحرمة وقال الرب الإله: صار آدم كواحد منا يعرف الخير والشر!.. كواحد منا «سفر التكوين، الآية 22».
والمسيحيون، خصوصاً الأرثوذكس، يقولون إنهم أهل التوحيد!، مع أن المسيحية معروفة بعقيدة التثليث، وليس التوحيد «الثلاثة لا الواحد»، لكنهم يقولون إن هذه الثلاثة هي «أقانيم» أي صفات أو طبائع أو تجليات لمعبود واحد، بدليل أن العبارة الشعار في المسيحية تقول، كاملة: باسم الآب والابن وروح القدس، إله واحد، أمين «آمن، إمن، آمون».. وهذا عندهم هو معني التوحيد.
أما في الإسلام، حيث «التوحيد» هو أول ركن من أركان الدين، متمثلاً في شهادة: لا إله إلا الله.. فقد وقع الاختلاف في دلالة معاني التوحيد، فالمعتزلة الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «أهل التوحيد والعدل» يقولون إن معني التوحيد عندهم هو أن صفات الله هي عين ذاته. فهو تعالي «واحد» بمعني أن التعدد لا يجوز في حقه ولا يصح في ذاته لكثرة الصفات الإلهية. فهي عين الذات!، وفي مذهبهم، الله قادر بقدرة هي هو «أي عين ذاته»، وعليم بعلم هو هو «أي عين ذاته» وحيّ بحياة هي هو.. وهكذا في بقية الصفات التي لا تخرج عن نطاق الذات، وليس زائدة عليها لأنها «هي، هو».
وطبعاً، المعتزلة مسلمون من أهل السنة، مثلهم كمثل الأشاعرة الذين يتبني «الأزهر الشريف» اليوم مذهبهم في أصول الدين، على اعتبار أنه مذهب وسطي بين المعتزلة ونقيضهم: المشبهة، المجسمة «أي القائلين بأن لله تعالي جسما وصورة كصورة الرجل!»، فكان توسط الأشاعرة في مسألة التوحيد، توفيقياً، فقالوا إن هناك سبع صفات إلهية هي فقط التي تعد عين الذات الإلهية، وما عداها من الصفات زائدة على الذات أو ملحقة بها. والصفات السبع الذاتية عند الأشاعرة، هي: الحياة، الإرادة، القدرة، العلم، والسمع، والبصر، الكلام.. هذه فقط من عين الذات الإلهية، وهذا هو معني التوحيد عند الأشاعرة.. طيب، إذا كان أهم ملمح من ملامح الدين الإسلامي «التوحيد» ليس متفقاً على مفهومه، وليس فيه ما يمكن وصفه بأنه معلوم بالضرورة. فكيف الحال مع بقية المعتقدات والمعلومات الدينية التي تأتي من حيث الأهمية، بعد التوحيد.. وبالتالي، فما هو المراد من قولهم المراوغ الذي صار اليوم قانوناً مدنياً يدخل الناس السجون بسببه، وقد تصل بعض عقوباته إلى الإعدام، عند إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ما هو ذلك المعلوم من الدين بالضرورة؟ هذا ليس سؤالاً بلاغياً أو استنكارياً، وإنما هو استفهامي بسيط.. الذين يحاسبون غيرهم لإنكارهم المعلوم من الدين بالضرورة، عليهم أولاً وقبل المحاسبة أن يحددوا بدقة ذلك «المعلوم من الدين بالضرورة» كي لا ينكره أحد.
وختاماً، نورد فيما يلي بعضا من «عقيدة» الإمام عبدالقادر الجيلاني، أحد أجلاء الأولياء الكبار في التاريخ الإسلامي. هو من القلائل الذين لم يختلف أحد على مكانتهم، سواء من أهل السنة أو الشيعة. يقول الإمام «المتوفي سنة 561 هجرية» معلناً عقيدته في التوحيد، واختلافها عن عقائد الجماعات الإسلامية الأخرى، التي لم يخرجها الإمام الجيلاني من نطاق الإسلام، وإنما حدد فقط اختلافه معهم في مفهوم التوحيد ودلالته الدقيقة:
الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأين الأين وتعزز عن الأينية، ووجد في كل شيءٍ وتقدس عن الظرفية.. سبحانه وتعالي، لا يسبق بقبلية ولا يلحق ببعديةٍ ولا يقاس بمثليةٍ ولا يقرن بشكليةٍ ولا يعاب بزوجية ولا يعرف بجسميةٍ.. هو واحد، رداً على البيانية (أتباع بيان بن سمعان التميمي، الزاعم بأن لله تعالي أعضاء، وبأنه يتحد بجزءٍ منه مع مخلوقاته)، صمد، رداً على الثنوية (وهم القائلون بإله للنور وإله للظلام. الصمد معناها ما لا باطن له، ومن تعمد إليه الأمور فلا يقضي فيها غيره).
لا مثيل له طعنا على الحشوية (وهم القائلون بأن لله تعالي جسما ولحما ودما وحشيً وأجازوا ملامسة الله).
لا كقوله، رداً على من ألحد بالوصفية (أي الذي يزعم أن صفات الله كصفات البشر.. وسوف نتوقف في مقالة قادمة عند مفهوم الإلحاد)، لا يتحرك متحرك إلا بإرادته، رداً على القدرية (وهم القائلون بقدرة الإنسان دون إرادة الله، هم عدة فرق وجماعات).
لا تضاهي قدرته ولا تتناهي حكمته تكذيبا للهذيلية (أتباع أبي الهذيل العلاف المعتزلي القائل بتناهي قدرة الله وسكون أهل الجنة والنار في خاتمة المطاف).
حقوقه واجبة ولا حق لأحد عليه، نقضا لقاعدة النظامية (أتباع إبراهيم النظام المعتزلي، القائل بأن الله لابد أن يفعل الأصلح، لأن هذا واجب عليه تعالي).
عادل لا يظلم، صادق لا يخلف، متكلم بكلام قديم أزلي أنزل القرآن فأعجز الفصحاء، إرغاماً لحجج المردارية (أتباع عيسي المردار المعتزلي، القائل بأن الناس يمكنهم أن يأتوا بمثل القرآن وبما هو أفصح).
يستر العيوب ويغفر الذنوب، ألف بين قلوب المؤمنين وأضل الكافرين، رداً على الهشامية (أتباع هشام بن عمر الفوطي، القائل بحرية الفعل الإنساني وبإنكار التدخل الإلهي في الإيمان والكفر).
وتستمر «عقيدة» الإمام الجيلاني، على هذا النحو السابق، فتستعرض المزيد من دلالات ومعاني المفهوم الأساسي في الإسلام «التوحيد» وبيان اختلاف مذهبه التوحيدي، عن مذاهب وآراء وأقوال الفرق الإسلامية، التي لم تتفق على مفهوم محدد للتوحيد، بحيث يعد هو المعلوم بالضرورة.. ومن أراد النظر في بقية هذا النص الحافل فعليه بالرجوع إلى كتابي: ديوان عبدالقادر الجيلاني، القسم الثاني.
* المصري اليوم.