*حنان كامل الشيخ
امرأة وافقت الرأي الجمعي بأن صوت القنابل صار أكثر من الاحتمال، بدرجتين أو ثلاث، وأن الدماء التي اسودت من حر النهار والليل، أصبحت رائحتها أقوى من القدرة ، وبالتالي فالخوف المؤجل على حياة أطفالها آن أوانه بعد تأخر ست سنوات من الاعتقاد، أن أمرا ما سوف يهدأ. تقف على بعد خطوتين من وطن ميت، تربط ولديها بحبلين ينتهي طرفاهما حول خصرها النحيل، لتؤمن لهم عيشا واحدا أو صعودا واحدا.
امرأة أخرى تمشي على الرصيف المخصص للمشاة، مطمئنة ساكنة متوائمة جدا مع صوت الموسيقى الكلاسيكية التي تنبعث من سماعتي “الآيبود” المعلق على خصرها برشاقة، تبدو بذلتها الرياضية الفاخرة وكأنها مولودة بها أصلا وقد كبرت معها، تمارس هواية التريض المسائي بصحبة كلبها الألماني الأصيل المربوط بحبل ذي ماركة بلجيكية مرموقة، يسير بدلال وغرور يتماهى مع الأنفة الممزوجة بالثقة، تبثها صاحبته فيه بحركاتها و ايماءتها المتجذرة في النعيم الظاهر والباطن في المشهد الجميل. لا يزعجها في هذا الطقس الاعتيادي إلا حارس الفيللا المؤجرة لقنصل أوروبي، لأنها تعتقد أنه يقوم بتصويرها خلسة بعد أن تمر من أمامه.
فتاة تجاوزت الثلاثين ببضعة أصابع، تضع ملقط الغسيل على طرف شفتها بحركة تلقائية، أثناء نشر غسيلها الأبيض الزاهي على الحبل المعلق فوق سطح البناية، فيما جارتها الفضولية لا تزال تحفظ أوقات صعودها، لتراقب بحسرة لم تفتر، شابا لم يمل من مشاهدة أفضل لقطات حياته، منذ زمن بعيد. حتى بعد أن زوجته أمه من الفتاة التي اختارتها هي، حين اقتنعت وأقنعته أن فتاة الملابس ناصعة البياض نفاذة الرائحة العطرة، واسعة العينين بهية الطلة، ذات الشهادة الجامعية الأولى بامتياز هي للأسف قصيرة القامة، ولا تطول حتى حبل الغسيل!
فتاة أخرى تكتب آخر رسائلها له، بعد أن تخلى عنها بخسة ونذالة، لأنها لم توقف حائلا بينهما بدعوى الحب الأبدي. تحثه فيها على الاستغفار لهما والصلاة على روحها التي ستصعد إلى السماء، بعد أن تلف حبل النايلون حول رقبتها هذه الليلة. لم تستذكر في خطابها المكتوب بيد مرتجفة، ودمع يمسح الكلمات، أيا من ذكرياتهما الحلوة والبشعة معا. لم تأت على ذكر أصعب تجاربها، بل أصعب تجارب من سمعت عنهن، وهي ممددة فوق سرير قذر تعد للعشرة كما طلب منها طبيب التخدير، في ليلة إسقاط ثمرة حب من طرف واحد. طلبت فقط أن لا يعيد الكرة مع بنات الناس لأن قلوبهن مثل ورق الورد، تشرق مع الشمس و الحب، وتموت من الحر والغيظ.
شاب في مقتبل عمره وأحلامه، تداعب وجنتيه المحترقتين نسائم الهواء في مكانه العالي المعلق ما بين السماء و الأرض، يمسك بحذر عادي طرف الحبل المشدود إلى بطنه بيد، فيما يده الأخرى تلمع بشكل تلقائي زجاج الشركة الكبيرة من الخارج. يسترق النظر كل مرة إلى الموظفات والموظفين الأنيقين، يتناولون قهوة الصباح مع معجنات صغيرة، متحلقين دائما حول أحدهم وهو يريهم صورا على هاتفه. يسمع تعليقاتهم المكررة وضحكاتهم المكررة، دون أن ينتبهوا له مرة. لم يفعلوا هذا منذ كان صغيرا يعمل في ورشة سيارات أيام عطل المدرسة. و لم يفعلوا أيضا وهو يمزق في الشارع شهادة الثانوية العامة، التي حرمته من فرصة القبول الموحد.
شاب آخر قام بتصوير نفسه مائة صورة ربما، وبث تجربته موثقة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتسلى أصحابه ويضحكوا كثيرا من منظره وهو مسحوب بسيارته الفارهة التي تعطلت به فجأة، بينما كان عائدا من منزله الصيفي على شاطئ متخم بالبواخر المصطفة والمقاهي التي تحاكي مثيلاتها في أوروبا الكلاسيكية. أحرجته كثيرا تجربته الصعبة، وهو الذي لم يرف جفنه قبل اليوم، من أجل أي طارئ يوقف تصاعده اللامنتهي نحو السعادة. لم يجد بدا من تحويل الأمر إلى نكتة، ليوفر على حساده فرصة الشماتة به، وهو مجبور على ربط سيارته ذات المائة ألف دينار، بحبل معقود إلى عربة نصف نقل غير معروفة الموديل ولا اللون!
حول كل هؤلاء، أشخاص وتجارب مربوطون بحبال وهمية، يعتقد أبطالها أنهم أصحاب الحكاية الأصلية والوحيدة، التي يجب أن تروى!
______
*الغد