*محمد حمدان بن جرش
تُعد الثقافة في الدول المتقدمة جزءاً لا يتجزأ من مفهوم التقدم نفسه، وهو ما ينعكس في استراتيجيات تلك الدول تجاه العمل الثقافي، حيث تخصص الموارد المالية الكافية لبناء المراكز الثقافية، والتي لا تقتصر فقط على مراكز المدن، وإنما تمتد لتشمل المناطق البعيدة، والأحياء، فقد باتت حصة الفرد من المنتج الثقافي جزءاً من الحق الذي تتكفل الدول المتقدمة بتأمينه، وتعتبر نفسها مسؤولة عنه في المقام الأول .
ومن هنا، فإن المراكز الثقافية هي الحاضن الرئيس للأنشطة الثقافية واللقاءات الأدبية والعروض والمهرجانات والمسابقات، وتستقطب بفعالياتها مختلف شرائح الجمهور، إن كان على مستوى اهتمامات الجمهور، أو على مستوى الشرائح العمرية، أو من حيث تضمين فعالياتها ما يوازن بين تراث الشعوب وبين الأعمال المعاصرة، وذلك انطلاقاً من أهمية تربية الذوق الفني والجمالي، وتنمية المشاركة الثقافية العامة، وتكوين مفهوم المواطنة، وبناء شخصية المواطن باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الشخصية الوطنية نفسها .
ولقد اتخذت العديد من الدول إجراءات مهمة على مستوى التخطيط في تنشيط العمل الثقافي، فالعمل الثقافي لا يتوقف على توافر المكان المخصص للفعاليات، أو على ميزانيات كافية، وإنما على وجود آلية للتنشيط الثقافي، وغايتها تمكين المجموعات الاجتماعية المختلفة من المشاركة في العمل الثقافي، وتلبية احتياجاتها الثقافية والفنية والأدبية، الأمر الذي يمر عبر البرامج المختلفة التي توازن بين تلك الاحتياجات، وتقوم بترتيب الأولويات، وتتضمن المسرح والسينما والرسم والموسيقى والأماسي الشعرية والمحاضرات الفكرية والملتقيات، وغيرها من الأنشطة الثقافية والفنية .
إن التنشيط الثقافي عملية مركبة، فهو لا ينفصل عن المجتمع الذي يقوم فيه، وإنما يعمل انطلاقاً من وعي الضرورات والاحتياجات الخاصة بالمجتمع، وبناءً على ذلك، فإن عملية التنشيط الثقافي تأتي عبر قراءة احتياجات المجتمع بمختلف شرائحه، ومن ثم وضع البرامج المناسبة لتلبية تلك الاحتياجات، وفي هذا المفصل ثمة عملية مشاركة بين التنشيط الثقافي وبين الجمهور، فالجمهور ليس متلقياً يأتي ليتابع، وإنما هو شريك في تحديد العملية الثقافية، وتالياً فإن وضع البرامج والفعاليات يأتي في سياق الحوار بين المؤسسة الثقافية، وبين الجمهور عبر القنوات المتاحة .
ومع تسارع وتائر العولمة، وما فرضته من تطورات مذهلة في عالم التواصل عبر ثورة التقانة والاتصالات، فإن مهام التنشيط الثقافي تكتسب أهمية أكبر، بل ويصبح دور التنشيط الثقافي أصعب بكثير، خاصة وأن وسائل التواصل قد أتاحت للفرد إمكانية الاطلاع والمعرفة والثقافة بشكل مذهل، وهي من هذه الناحية قد وضعت العملية الثقافية، بل ومهام التنشيط الثقافي أمام تحديات من نوع جديد، كي تتمكن من تجديد أدوات التواصل مع الجمهور، وبرمجة الفعاليات، واستقطاب الجمهور .
لكننا في الوقت الذي قطعت الدول المتقدمة مراحل مهمة في عملية التنشيط الثقافي، وتأسيس كوادر مؤهلة ومتخصصة في هذا المجال، فإننا ما زلنا في وطننا العربي نعاني من عملية تنشيط الحراك الثقافي، على الرغم من امتلاك الكثير من الدول العربية للمراكز الثقافية، لكن وجود تلك المراكز لم يوجد عملية متكاملة بين برمجة النشاط الثقافي والفئات المستهدفة منه، ما يشير إلى حاجة ماسة لتطوير البرامج والخطط والاستراتيجيات الثقافية، وتأهيل كوادر مختصة في التنشيط الثقافي، كخطوة من الخطوات الضرورية لتمكين المجتمعات العربية من تلبية احتياجاتها الثقافية والفنية والأدبية، وتحفيز مختلف الشرائح للمشاركة في الفعل الثقافي، وتنمية الوعي العام بأهمية التنمية الثقافية كجزء من التنمية العامة .
وفي الإمارات، توجد بنى تحتية حديثة، وتتوافر إمكانات مادية مهمة لتطوير الفعل الثقافي، كما تتواجد العديد من المؤسسات الثقافية، والعديد من المراكز الثقافية، وتعنى الدولة بتطوير الفعل الثقافي كجزء من التوجه الاستراتيجي نحو مجتمع المعرفة، فإن تطوير سياقات التنشيط الثقافي، وتأهيل المختصين، تبقى مهام قائمة دائمة، تنطلق مما تمّ إنجازه وتطويره، وهو ما يساعد في تنمية الوعي العام بالثقافة والفنون والآداب، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من سياق تطور الموروث التاريخي من جهة، والانخراط في سياق الثقافة العالمية بقيمها الإنسانية العامة، وقبل كل ذلك، التأكيد على مكانة الثقافة في تكوين الشخصية العامة من جهة ثانية، وتلبية متطلبات تنميتها، بما يواكب المكانة التي تحتلها الإمارات اليوم في مجالات التنمية على كافة الصعد .
_______
*الخليج الثقافية