آلهة وملوك



محمود عبد الشكور*



مهما كانت الأسباب التي جعلت فيلم «gods of Egypt»، يعرض عندنا تحت عنوان «kings of Egypt»، فإن ما يعنينا أكثر في العمل الضخم الذي أخرجه أليكس بروياس هو قراءة الفيلم نفسه، تصنيفه ومغزاه، والطريقة التي قدمت بها أساطير الآلهة الفرعونية الشهيرة.
من حيث المضمون نحن بالفعل أمام حكاية عن صراع آلهة على حكم البشر على الأرض، نستطيع أن نقول إنه صراع على السلطة، جوهر اللعبة هو تقديم مجموعة من الآلهة المصرية القديمة معا، في صورة أقرب ما تكون إلى صراعات الآلهة في الملاحم الإغريقية القديمة، مثل «الإلياذة» و«الأوديسا».
يجب أن نلاحظ أيضاً أن تصنيف الفيلم على أنه «تاريخي» أو «أسطوري» أمر غير صحيح على الإطلاق، إننا أمام ما يطلق عليه «فانتازيا مستلهمة من أساطير»، خيال حر يأخذ من أسطورة إيزيس وأوزوريس وست ونفتيس وحورس إطارها العام فقط، ثم يقدم رؤية لها علاقة بمضمون مختلف، محوره علاقة البشر بالآلهة، وفكرة الحب كقيمة خالدة، دون إهمال مغزى الأسطورة المصرية القديمة، التي تتحدث عن قدرة الخير على قهر الشر، وقدرة الحب والوفاء على استعادة الحياة من الموت.
لا جدوى إذن من المقارنة بين الأسطورة الأصلية، أو صور الآلهة المصرية المعروفة، وبين ما رأيناه في عمل فانتازي تماماً. الفانتازيا هي قانون الفيلم، وهي أيضاً معيار تقييمه، لذلك نقول بوضوح إننا أمام عمل خيالي فائق الإبهار، يستلهم فقط (ولا ينقل) صورة الحضارة الفرعونية وأساطيرها، يعنيه الصورة والمؤثرات والمعارك والمطاردات المتقنة التي تم توزيعها بشكل ذكي على مدي الفيلم، يهتم بالتشويق والإثارة، ويري في هذه الأساطير، وفي تلك الأرض (مصر)، ما يصلح لكي يكون مادة درامية سينمائية، تماماً مثلما هو الحال في تلك الأفلام التي استلهمت أساطير الآلهة الإغريقية.
الإطار المستلهم لا يزيد على الصراع بين أوزوريس الخير، وشقيقه ست الشرير، وقيام الأخير بقتل أوزوريس، فيما عدا ذلك هناك بناء فانتازي للأسطورة، مع التأكيد منذ البداية على أن مصر وأرضها هما محور الكون والحياة كلها، وأنها مكان يستحق أن يتصارع حوله الآلهة، وأن يسكنوه أيضاً كملوك، لا أن يسكنه البشر فحسب.
ستشاهد في الفيلم آلهة شهيرة للفراعنة مثل أبطال الملحمة الأصلية: أوزوريس وإيزيس وست وحورس ونفتيس، وسيظهر كذلك آلهة آخرون مثل أنوبيس رب العالم الآخر، وتوت إله الحكمة، وقبل هؤلاء رع الإله الأعظم، وكأنه زيوس المصري، ولكن سمات هذه الآلهة في الفيلم ترتبط بالدراما، ولها علاقة ضعيفة جداً بأصلها الأسطوري، وهو أمر مشروع تماماً، فمن حق صناع الأفلام أن يكتفوا بالاستلهام، وأن يصنعوا هم أساطيرهم الجديدة، دون اتهام ساذج بالتشويه أو إهانة الأساطير والتاريخ، الفن محاكاة، وهذه المحاكاة تستوعب الخيال المحلق أيضاً.
فيلمنا مثلا يذكر أن ست مزق جسد أوزوريس، مثلما هو الحال في الأسطورة المصرية، ولكن الفيلم لا يمنح دورا لإيزيس في إعادة الأشلاء إلى أصلها، بل نعرف أنها انتحرت بعد مقتل زوجها. الحكاية ليست أصلا عن أوزوريس وست، ولكنها عن رحلة الإله حورس، ابن أوزريس، لاستعادة عرش مصر، بمساعدة أحد البشر الفانين ويدعي بيك، والصراع ذكوري بالأساس، مع دور مهم أنثوي واحد هو الربة هاتور، التي جعلها الفيلم إلهة الحب. في المشاهد الأولي، وفي يوم تنصيب حورس بمباركة والده أوزوريس، يقتحم ست وجنوده المكان، يقتل أوزوريس، وينتزع عيني حورس، فيفقده قوته وسطوته، ويتخذ ست من هاتور عشيقة، وكانت أصلا عشيقة لحورس، ثم يمتلك ست مصر بقوة القهر، ويستعبد شعبها، تحت سطوة السيف.
بناء الفيلم يأخذ بعد ذلك شكل الرحلة: يتحدد طرفا الصراع أكثر عندما ينضم بيك، وهو شاب ظريف ومغامر يذكرنا بعلاء الدين أو سندباد في حكايات «ألف ليلة وليلة»، إلى حورس الإله المهزوم، يقوم بيك بإعادة إحدى العينين إلى حورس، بشرط أن يعيد حورس الحياة إلى زايا، حبيبة بيك، التي قتلها سهم أثناء المطاردة، هنا تبدأ رحلة استعادة سلطة مصر، أولا بدافع الانتقام، وفيما بعد بهدف هزيمة الشر، وإقرار العدل، ووضع أساس لمحاسبة البشر في الآخرة، مرتبط بما فعلوه في الدنيا.
الإبهار البصري المتقن والمجسم على الشاشة بتقنية البعد الثالث، يجب ألا يشغلنا عن هذا البناء المعقد الذي يستلهم الأسطورة والدين معا في حزمة واحدة، عينه على فكرة صراع الخير والشر، وعينه على الامتاع البصري بالصورة والحركة والكائنات الخرافية، حيث يتحول الإله أحيانا إلى هيئة صقر أو تنين، وحيث تقتحم الثعابين الشاشة، لتقفز إلى عين المتفرج في القاعة، وحيث تحاصر النيران الأبطال.
ولكن عين الفيلم أيضاً على فكرة العلاقة بين الآلهة الخالدين، والبشر الفانين، هناك حفاوة واضحة بالبشر، بقدرتهم على الحب، بجرأتهم وشجاعتهم، بل إن حورس سيترك نائبه/ خليفته ليدير مصر، بينما يحلق هو في الفضاء، ربما بحثا عن هاتور في العالم الآخر، ولكن هذه الحفاوة بالإنسان مرتبطة أيضاً بإله خير وعادل، يضع أساس الثواب والحساب، هذا الإله هو الشاب حورس الذي سيولد من جديد في نهاية الرحلة، بعد أن اختبر المعاناة، وبعد أن أصبح جديرا بأن يكون هو أيضاً خليفة لوالده أوزوريس، ولجده رع إله النور كما يصفه الفيلم، وهو في الفيلم حكيم، يسلب ست قدرته على التناسل، ويريد للخير أن يسود، ولكن بجهد يبذله حفيده حورس، لكي يكون مستحقا للسلطة.
جوهر القصة في ثوبها الفانتازي الجديد في هذا التحالف بين إله خير وقوي يدعي حورس، وإنسان بسيط وعاشق يدعي بيك، بل إن حكاية غرام حورس وهاتور، توازي حكاية بيك وزايا، يكاد الحب أن يكون حلقة وصل بين الخالد والفاني، هاتور شخصة ثرية للغاية، إنها تتعاطف كثيرا مع رغبة بيك في استعادة حبيبته من عالم الموتى، تضحي هاتور بنفسها لكي يصل بيك إلى حيث تحاسب زايا في العالم الآخر، هاتور أيضاً عاشقة، إنها تعرف أيضاً كيف تغوي البشر، باستثناء العاشقين منهم.
تفكيك فيلم «آلهة مصر» يكشف عن مغزي مهم مستلهم من أساطير الفراعنة، أراد الشر ممثلا في ست أن يأخذ عقل توت إله الحكمة، وعيني حورس رب الهواء، وجناحي نفتيس الطيبة، بل أراد أن يزيح والده رع (وهو أيضاً والد أوزوريس) عن مكانته العليا، أراد الشر أن ينشر الفوضى، ولكن حورس وريث الخير، وبيك العاشق، يستعيدان الزمام، تصبح الأعمال لا الذهب معيار الثواب والعقاب، يمتد الخيط الواصل بين الأسطورة الفرعونية، والدين بمعناه المعاصر، ثم إن هوليوود تدافع عن أيقوناتها بمهارة، حتى وهي تستلهم الآلهة المصرية: البطل الفرد يربح بجهده وشجاعته، أسرة جديدة تتكون على أساس حب أسطوري، ووطن يستحق الدفاع عنه، والعودة لاستعادته، وتعظيم إرادة الإنسان المستمدة من إرادة الإله الأشمل والأعظم.
ألا تتفق معي بعد هذا التحليل أن هذا الفيلم يستحق ما هو أفضل في الحديث عنه، بدلا من الجدل حول حكاية عرضه عندنا باسم «ملوك مصر»، بدلا من «آلهة مصر»؟!
* الشروق.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *