حوار – أحمد أبو الحسن*
علقت عملي مع أم كلثوم بسبب ضعف الأجر.. وعبد الوهاب أكبر حجما من بتهوفن
في الأسبوع الماضي قدم الموسيقار عبده داغر من زاويته خريطة كاملة للموسيقي المصرية موثقة بالأسماء والوقائع، تحدث عن الموسيقات العسكرية، والملاجئ التي تخرج فيها كبار الموسيقيين وكان هو في صغره شاهدا على ما يدرس فيها بحكم تحركه مع أبيه الذي كان يعمل مدرسا للموسيقي في ملجأ طنطا ودمياط، ولمح إلى دور المشايخ والمبتهلات في تكوين فكره الموسيقي، واقتناصه لفكرة التقاسيم التي تملأ مؤلفاته، وهي الفكرة التي تقوم على تبادل أكثر من آلة الموسيقية عزف الصولوهات طوال المقطوعة في حوار موسيقي متناغم ترتكز فيه كل آلة على جملة رئيسية تعزفها حين يبدأ الصولو أو ينتهي، الأمر الذي دفع عبده داغر وزملاءه الموسيقيين المحبين لفكرة التقاسيم، إلى الانطلاق نحو تطوير فكرتهم، ونقلها إلى الجماهير الشعبية، في تجارب ذاع صيتها مع أحمد عدوية ومحمد رشدي، أفرزت أغاني مصرية شعبية تتبادل فيها الآلات الموسيقية حوارا مع حنجرة المطرب من نفس النغمات والمقامات الموسيقية، وهو ما أنضج الفكر الموسيقي المصري بكامله، ومكّن حناجر المطربين من أن تتحول في بعض الأغاني إلى آلات موسيقية مليئة بالحس المصري الشديد الخصوصية، في حين تحدث داغر عن عشرات القصص والذكريات التي عاشها خلال 65 عاما هي عمر مشواره الموسيقي بين التأليف وتعليم الأجيال الجديدة في منزله.
>لم تكن فكرة التقاسيم تصلح مع أم كلثوم، حدثنا عن بعض ذكريات معها ومع أغانيها؟
– من جلب أم كلثوم إلى مصر هو جدي وهو الذي قدمها إلى الشيخ أو العلا محمد، في بداياتها حين كانت تقيم في قريتها، فجدي كان بعد العصر أسبوعيا يعقد في طنطا ناديا للموسيقي كما كان يسميه أصدقاؤه، وهو عبارة عن جلسة تجرب فيها الآلات الجديدة التي يبيعها في محل بيع الآلات الموسيقية، وفي هذه الجلسات يجيء مطربون ومبتهلون من القري والمحافظات المجاورة لمقابلة المشايخ الكبار كـ«أبو العلا محمد والمسلوب» وغيرهما، والحقيقة أن مثل هذه الجلسات استمرت لعقود في مصر، وكان لها كشافون يبحثون عن المواهب الجديدة ويتتبعون أي مطرب تذيع شهرته في مولد أو قرية، عزفت مع أم كلثوم هوه صحيح الهوي غلاب، والحب كله، في فرقتها كان هناك عازف كمان قوي جداً هو أحمد الحفناوي، وبعد أن التحقت إلى الفرقة شممت رائحة مؤامرة على الحفناوي سأكون طرفا فيها دون أن أشعر، عازفان كبيران هما اللذان كانا يدبران تلك المؤامرة، واحمد الحفناوي لم يكن مثلي يعمل في النمر الشعبية ويسجل في الاستديوهات مع أكثر من مطرب ومطربة من مختلف الأنواع والألوان الموسيقية، عمله الوحيد كان في فرقة أم كلثوم، محمد عبده صالح عازف القانون الكبير والشيخ محمد القصبجي هما من أقنعا أم كلثوم بضمي إلى فرقتها، وقالوا لها أني عازف ماهر وصاحب صوت مميز ومعروف بين الموسيقيين، وإن عزف خلفها ستتسلطن بطريقة مختلفة عن التي يوفرها الحفناوي، ذهبت وعقدت بروفات ووقت الحفلة لم أذهب لأني كنت مشغولا وشعرت أن أم كلثوم فهمت المؤامرة كانت ذكية جداً في العمل وشديدة المهارة في التعامل مع الموسيقيين الذين يعزفون في فرقتها، تهتم بكل تفاصيلهم وتتبعها، كانت أم كلثوم تعرفني، لأني مثلها تعلمت على يد الشيخ أبوالعلا محمد الذي كان من طنطا وبيته قريبا من منزلنا، حين قابلتها تذكرنا أيام سفرها إلى طنطا ورحلات مصاحبتها لشيخها أبو العلا، حكت لي كيف سمعتني أول مرة في فرقة الموسيقي العربية وبعدها اتصلت بعبد الحليم نويرة واخبرته أنها تحتاجني لاعمل معها في الفرقة، أرسل لي نويرة وقال ان الست زعلانة جداً من أنها طلبت مني العمل معها أكثر من مرة وبعد البروفات لم أذهب للحفلة، كنت بصراحة لا أريد العمل مع أم كلثوم في وجود الحفناوي، سجلت معها لبليغ حمدي في الاستديو سيرة الحب، ولحن لرياض السنباطي، ووقت بروفات وتسجيل أغنية غدا ألقاك لم استطع التعلل بأي عذر يمنعني من العمل، لأني أيامها كنت أسافر كثيرا إلى الدول العربية والمغرب العربي مع عبد المطلب ووردة وآخرين، وهذا سبب آخر دائما ما كان يمنعني من العمل مع أم كلثوم، فأغنيتها الواحدة تتطلب الكثير من البروفات ثم ندخل الاستديو نسجل، وبعد ذلك نذهب للعزف في الحفلة الشهرية، والأجر الذي كنت أحصله طيلة كل هذا العمل لا يساوي أجري الذي سأتمكن من تحصيله إن بقيت على وضعي أسافر حفلات في الخارج أو أعزف في الاستديوهات في أغنيات سريعة، وحين أخذت أجر العمل في غدا ألقاك، أذكر أنه كان 15 جنيها، رفضته وأعدته مرة أخرى لها مع مرسال يخبرها بأن ليس هذا هو الأجر الذي يناسب أم كلثوم، أذكر أنها منذ ذلك الموقف رفعت أجور الفرقة الضعف، ولأن اسرائيل كانت تطبع حفلة أم كلثوم وتبيعها فور نقلها من الإذاعة، كانت أم كلثوم وقت غدا ألقاك تسجل الأغاني في الاستديو قبل أن تقدمها على المسرح، أذكر أننا عندما أنهينا الاستعداد لتسجيل الأغنية في الاستديو وقمنا بعمل أكثر من 5 بروفات عليها، أصيبت أم كلثوم بنزلة برد، وتأجل العمل نحو 15 يوما متواصلة لم أرتبط خلالها بأي مواعيد عمل لأكون متأهبا في أي وقت لتسجيل أغنية غدا ألقاك التي تعبت الست قبل أن نقوم بتسجيلها ثم نقدمها على المسرح، أعتقد أن انتظار العمل طال أكثر من 4 أسابيع، ظللت طوالها دون عمل وهو ما أغضبني جداً، حتى جاءني حسين معوض الذي كان مدير أعمالها واخبرني أننا سنعيد كل البروفات مرة أخري، وهو ما زاد غضبي لكنه جاءني واصطحبني إلى منزل عبد الوهاب الذي كانت تعقد فيه البروفات، وطوال الطريق ظل يقنعني بأن الأجر الذي أحصل عليه من أم كلثوم وتسجيلاتها وحفلاتها هو أعلي أجر بين كل المطربين، وحتي وإن لم يكن كذلك فيكفي أنك تعزف في فرقة الست على حد قوله، وبالفعل ذهبت معه وأعدنا البروفات لكن عبد الوهاب أصيب بجذع في رقبته واذكر أنه استقبلنا وهو يضع رقبة بلاستيكية من شدة الألم، وكان عبد الوهاب في أغاني أم كلثوم يعقد البروفات في منزله لأنه مع كل بروفة يزيد على اللحن صولوهات وجملا موسيقية جديدة من باب التجويد إلى أن يستقر قرب موعد التسجيل على صورة نهائية، ظل عبد الوهاب يجود لأكثر من 5 بروفات جديدة، وحين جاء موعد تسجيل الأغنية ومن بعدها الحفل، طلبت أجرا جديدا، لأن الأجر القديم نفد، وهذا أمر أزعج أم كلثوم جداً، وعلقت ذهابي للاستديو قبل الحصول على جزء من هذا الأجر الجديد، أرسلت لي أم كلثوم مع حسين معوض أنها ستنفذ لي ما أريد لكن دون أن يعرف بقية الموسيقيين، وبالفعل ذهبت وسجلت وحصلت على الأجر لكني لم أوف بوعدي بشأن كتمان الأمر على بقية الفرقة، ولمحت لهم أني حصلت على أجرين، فاضطرت للتخلص مني وهذا أمر كان يرضيني جداً لأني بصراحة لا أريد مزاحمة الحفناوي والعمل في فرقة أم كلثوم “واقع عليّ بخسارة”، بعد هذا الموقف اتصلت الست بثروت عكاشة الذي كان وزيرا للثقافة وقتها وشكتني إليه فأرسل إليّ بحكم أني كنت أعمل في فرقة الموسيقي العربية التي تتبع وزارته وظيفيا، لكني ضاحكته بأن أم كلثوم لو كانت تريدني أعمل معها بأجر ضعيف في مقابل أن يشير الناس إلى اسمي ويقولون الذي يعمل مع الست، فلابد أن أتفق معها على صولو مدته ربع ساعة أعزفه وسط أغنياتها وتقدمني هي إلى الجمهور بنفسها قبل أن أعزف هذا الصولو فضحك عكاشة وقال انه لو قال ذلك لأم كلثوم فلن تكلمه مرة أخري، لكن أم كلثوم مدرسة وكل من عمل معها أضاف إلى مدرستها لأن جميعهم في الحقيقة كانوا موسيقيين كبارا، عبد الوهاب أضاف إليها وأضافت له، والقصبجي كذلك وزكريا أحمد، ورياض السنباطي.
أيام العمل مع أم كلثوم كانت في أوائل السبعينات لأن بعد الوقائع السابقة حدثت حرب 73، ليلة 6 أكتوبر كنت أجلس مع أصدقاء كثيرين وقلت لهم ان في الغد ستقوم مصر بعبور خط بارليف، ودحر إسرائيل في ست ساعات، حتى أن أصدقائي بعدها قالوا لي ساخرين اني اتصلت بالسادات وعرفت منه الموعد ومقولة الـ 6ساعات التي قالها في خطاب النصر بعد الحرب.
> في الأيام التي ذاع فيها صيت أحمد عدوية ظهرت الفرقة الماسية، نريد أن نفهم كيف استفادت الموسيقي المصرية من مثل هذه الفرق؟
– أيام عدوية كنت أعمل بكثافة شديدة، ليلا ونهارا، 10 نمر في اليوم مع عدوية فقط هذا بخلاف عشرات التسجيلات التي كان المطربون يطلبونني فيها بالاسم لأنها صولوهات ناجحة ومؤثرة كما يحدث مع عدوية، وكلمني أحمد حسن في احد هذه الأيام كثيفة الشغل وهو يؤسس الماسية، تحمست وأجلت بعضا من أعمالي مع عدوية وجدولت بروفات الفرقة الماسية ومواعيد حفلاتها وتسجيلاتها في الاستديوهات مع عبد الحليم ووردة ونجاة، وكنت بدأت أحس مع أوائل الثمانينات، أن نجم عدوية سيسقط بنفس الطريقة المفاجئة التي ارتفع ونجح بها هذا النجاح غير المسبوق، كان لذلك مؤشرات فهمتها من خبرتي في التعامل مع صناعة المطرب النجم، فعدوية أهلكته الشهرة وجعلته يترك الطرب والسلطنة ويتجه إلى الجلوس مع الجمهور، النجم يجب أن يمتع الجمهور فقط ولا يجلس معهم، ستقتله حفاوتهم وتقوده نحو الغرور والكسل، عملت مع وردة في حفلات كثير وسجلت مع عبد الحليم في الأفلام والاستديوهات أغاني من كثرتها لا أحفظ أسماءها.
كم مقطوعة ألفت؟
-ألفت نحو 50 مقطوعة ما جمعه التلامذة منها حوالي 25 نختار منها منها ما يناسب مزاج كل حفلة من الحفلات الحية، نداء والأندلس، وسماعي كورد على اليَكاَه وكلمة يَاكَاه فارسية معناها في الموسيقي قرار نغمة الصول الغليظة، ومقطوعة أخرى من نفس الجنس اسمها سماعي شورِي والشورِي هو مقام متفرع من عائلة البياتي بنغمة ري، بالإضافة إلى ولونجا نهاوند واللونجا هو نوع من المؤلفات الموسيقية المتبقية من حفلات الملوك والقصور التركية ومنها ألّف من قبل جميل بك الطنبوري ويورغو أفندي، وألفت من اللونجا مقطوعة أخرى عنوانها النيل القديم، وهذه المقطوعة بالذات لها قصة حيث ألفتها أيام العدوان الثلاثي فكلمة لونجا إيقاعيا تعني السرعة ولونجا النيل ايقاعها مرش عسكري سريع كأنه يحمس الجنود على الاقدام في الحرب والبسالة في المعركة ألفتها من سلم دو الكبير، وتحفظ فرقتي دائما طيلة حياتي أول مقطوعة ألفتها واسمها الشباب، وهناك مقطوعة اسمها”السامبا” و”بنت الحتة” و”الأندلس”ذات الإيقاعات المصرية الواحدة الكبيرة التي تسمي بين الموسيقيين بالفلاحي، ومقطوعة “النيل” التي كللت كل الابتكارات السابقة في الإيقاعات والهارموني إذ تمتلئ جملها بزخارف ايقاعية متنوعة بين السبعة ثمانية، وأذكر أيضاً من مقطوعاتي التي ألفتها في الستينات مقطوعة ليالي زمان زهي دائما ما أواظب على عزفها في الحفلات الحية وهي من أكثر المقطوعات التي يحفظها تلاميذي جيدا، لما فيها من نقلات وتمرينات موسيقية وصوتية مع الآلة تجعل العازف يتقافز بين أكثر من مقام معقد بسهولة وركوز ودون نشاز أو تغير في الصوت، مؤلفاتي من قوالب السماعي هي الأكثر تأثيرا في بقية المقطوعات الأخري، وأظن أن ذلك يرجع إلى تكويني المصري المقسم بين التركي والشعبي، في السنوات العشر الأخيرة ألفت مقطوعات كثيرا غلب فيها حسي المصري على الحس التركي مثل مقطوعة التحميلة نهاوند، واخناتون وريشة وكمان ورقصة الهدهد، وحاليا أعمل على انجاز ملحمة صوفية تحت مسمي الليلة المحمدية، طويلة ومدتها تزيد على الساعة ونصف الساعة وهي كل ما أتمناه الآن واحلم بإنجازه وان تدخلت فيه الدولة ستسهل عليّ الكثير واعدها أن هذا المؤلف سيكون مصريا وليس له مثيل موسيقي في أي بلد من العالم.
> هناك تقاسيم لك مع الشيخ محمد عمران في منزل محمد عبد الوهاب موجودة على ساوند كلاود ويوتيوب ومشهورة بين سميعتك حدثنا عن ذكريات هذه التقاسيم واحك لنا بعضا من حكاياتك مع عبد الوهاب؟
– عبد الوهاب موسيقي عظيم وهو نابغة ويملك حسا موسيقيا أكبر من بتهوفن، في يوم أرسل إليّ لكي أزوره، ذهبت إليه بصحبة طلعت الليثي عازف العود، جلسنا نسمعه حتى الصباح، وهو في الحقيقة مستمع للموسيقي غير عادي، وبعد أن تسلط منا على سبيل الهدية أخرج 10 جنيهات واعطاها لليثي، الذي تضايق جداً من ردة فعل عبدالوهاب تلك، أذكر أنني لكي أخفف حدة الموقف هذا قلت لليثي هات الـ 10 جنيهات وهديك بدالها 20، لأني سأحتفظ بها لأنها من عبد الوهاب وسأضعها في برواز، ثم اتصلت به بعدها وابلغته أني أريد أن أسمعه شيخا جديدا من تلامذتي، عرفت الشيخ عمران في أيام العمل مع عدوية في حديقة الخالدين بالحسين، كنت أقيم هناك سرادق أسبوعيا، غني في ذلك السرادق الكحلاوي ومحمد نوح وعدوية، أول مرة قابلت فيها عمران أخذته من يديه وذهبنا إلى عبد الوهاب الذي مكث طوال الليل مغمض العينين من أثر السلطنة التي كان يسمعها من عمران، وكان كلما شعر بأننا نغلق التقسيمة يقال زيد والنبي يا مولانا.
>كيف يمكن أن نرسم منهجا للموسيقى المصرية؟
– هذا المنهج بالفعل موجود ومدون، ومؤلفاتي كلها ما هي إلا مساهمة في رسم هذا المنهج، لابد أن يعود معهد الموسيقي العربية في منطقة الإسعاف إلى دوره التاريخي، ولو أرادت وزارة الثقافة الاحتفاظ به كأثر فلتفعل دون أن تغلقه، هذا المكان كان مقصد أي متعلم للموسيقي والغناء، لحظة غلق معهد الاسعاف هي التي أحسست فيها أني سأعود وافتح منزلي للمتعلمين لكي أعوض جزءا من النقص الذي سيسببه غياب هذا المعهد، في بيتي تعلم رضا رجب ومحمد الحلو وبهاء سلطان وغيرهم من العازفين والمطربين الموجودين الآن كنجوم في السوق، لابد أن يفتتح معهد الموسيقي العربية ويفتتح معه عشرات الملاجئ والمعاهد الأخرى في المحافظات ويتم تحفيز الناس على تعلم الموسيقي وتسهيل ذلك للأطفال منذ سن مبكرة كما كان يحدث من قبل، لابد أن نفيق من هذه الغيبوبة التي سقطنا فيها عن عمد لنرضي جيوب المنتجين الشرهين ومروجي المنولوجات والأغاني والمقطوعات الساذجة، وإن لم نفعل ذلك وبسرعة فستطولنا لعنة النغم المصري الذي تعبت في تربيته الأذن المصرية عبر كل مراحل التاريخ البشري.
* القاهرة.