في حضرة المرض


*صالح العامري


-1-
من لهم هؤلاء الذين يرتعشون ويئنون؟ من لهؤلاء الذين يبصقون الخراب ويسعلون آلاتهم المدمّرة؟ من لهؤلاء الذين ينتحبون في أكبادهم التي لم تعد تغربل وتفلتر وتمتص وتخزّن وتكسّر الدهون وتكنس النفايات؟ من لهؤلاء الذين يكتظون في متاهة الجسد ويترقرقون في تردد الأرواح؟ من لهؤلاء المحتشدين في قطار الإنسانية المعذبة وفي عرباتها التي تنبحها الكلاب من الخارج وتعضها الآلام من الداخل؟
-2-
يغسلنا المرض، يجعلنا لآلئ نادرة في أعين أنفسنا. يركض بنا هذا المعتوه، قاطعاً بنا منحدراته ومسالكه، في مغامراته الزلقة. يذكرنا بأنه لا مدعاة إلى أية حقائب، فأنت وحدك أيها المسافر في أصابعك وفي جبهتك وفي عينيك. أنت وحدك أيها الضعيف الهشّ حتّى أدربك على أن تنتصر وتتعافى. أنت وحدك أيّها الصارخ في داخلك وأمعائك، حتّى تصرخ فعلاً ضد أمراضك وآفاتك كلها.

المرضُ هو ابنُ الموت، يقذفنا بألعابه، يتحسسنا بأصابعه الخبيثة، يجسّ لهفاتنا وموائدنا المشتهاة، فإذا ما وجدنا سفينة غارقة جرفنا إلى لجة الصمت واستمتعت عناكبه بحطاماتنا وأشلائنا، أمّا إذا استشعر وقع فؤوسنا التي تقدح الشرر في مآقينا، وانتبه إلى سلاسله المندحرة في أرساغنا وكعوبنا، التجأ هارباً منا، يتحين فرصة أفضل كي يداهم ويستشري وينقضّ.
المرض مثل الحرب، تستر في جحيمها الجثة أو الولادة.
-3-
مزيداً من الحُمّى والدرن والسرطان
كي أقف عارياً كجرس من نار
ألوّح بخطاياي في الجزيرة النائية لمن لا يأتون
مزيداً من السيانيد والأرسينيك والسارين والبولونيوم والزرنيخ والزئبق والشوكران
كي تترسّخ وشائجي على هذه الأرض الملهمة
مزيداً من القيح والدم والمخاط والصرع والدوار والأوبئة
كي أعرف معنى الجدول والبركة والينبوع والنهر
مزيداً من الأوسمة المريضة والنياشين الصدئة
كي تتقوّى خلاياي وتتماسك أنشودتي
مزيداً من مثلثات الرعب المنزلقة في تجاويف الدماغ
كي أعرف طريق البرق القديم
مقتفياً آثار الأولين والآخرين المتقاطعة
مدرباً مصائري على هيئة دب قطبيّ
يمضغ الآن آخر مسراته في الأفق
-4-
على ترهاتكم وأحباركم
أسقط نجمة محقونة بالصداع وأضلاع الليل،
على مآثركم وطبولكم العدمية
أسقط قمراً مشرداً ضاقت به الأعالي،
على سمنتكم الغليظة وأفيالكم المتعجرفة
أسقط شمساً عمياء محطمة
تتكثّف جمرة أو إبرة
تذيبكم يا أبناء الثمار
تجففكم يا أولاد الحقيقة الدامية
-5-
نخلتان، كانتا هنالك
من خلل النافذة
تعيدان مصل الحياة
إلى ذلك الرأس الملقى على وسادة السرير رقم (13)
نخلتان عموميتان، توصلان الصيف إلى الجذع النخر
والعصافير إلى فرح الثمرة
نخلتان كانتا تضحكان من «السيبروفلوكساسين» الذي ينسرب في حقنة الوريد
وتقرآن معي رواية «شعائر الجنازة» لجان جينيه
، التي انزلقت بعفوية هناك – كما تلكم النخلتان- كدمعة أو كرنفال،
منصتين سوياً، أنا وغابات النخيل في العالم، إلى القصيدة المجنونة
التي أطلقها جاري العجوز
وهو يهزّ أكتاف الزمن.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *