د. جابر عصفور
كنا في خريف 1964. انتهى الصيف وعدنا من مدننا الموزعة على محافظات مصر، وجئنا إلى القاهرة لنستأنف عامنا الرابع والأخير في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة. وكانت أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوي قد بدأت معنا تدريس النقد الأدبي الحديث، تنظيرا وتطبيقا. وتوقفت عند القصيدة الحديثة، ربما لأنها كانت تؤثر كلمة الحديث على كلمة الحداثة التي بدأت في الشيوع التدريجي، وذات صباح وزعت علينا ورقة مطبوعة فيها قصيدة «أنا والمدينة» للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. وتمضي القصيدة– على النحو التالي:
هذا أنا،/ وهذه مدينتي،/ عند انتصاف الليل. رحابة الميدان، والجدران تل،/ تبين ثم تختفي وراء تل/ وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروب، ظل يذوب،/ يمتد ظل/ وعين مصباح فضولي ممل،/ دست على شعاعه لما مررت/ وجاش وجداني بمقطع حزين/ بدأته، ثم سكت/ من أنت يا.. من أنت؟/ الحارس الغبي لا يعي حكايتي/ لقد طردت اليوم/ من غرفتي وصرت ضائعا بدون اسم/ هذا أنا/ وهذه مدينتي!
كانت القصيدة مؤرخة بتاريخ يونيو 1957، وطلبت منا الدكتورة سهير القلماوي أن نقرأ هذه القصيدة، وأن نبدأ في تحليلها. وتساءلنا جميعا كيف نبدأ هذه القصيدة التي لا تشبه ما تعودناه من شعر عمودي، ظللنا ندرسه طوال السنوات الثلاث السابقة لنا في قسم اللغة العربية، فقد درسنا في عامنا الأول الشعر الجاهلي وانتقلنا في عامنا الثاني إلى الشعر الإسلامي والأموي ومنه إلى العصر العباسي في عامنا الثالث، أما في العام الرابع فركزنا في أوائله على الشعر الحديث، ابتداء من البارودي وشوقي وانتهاء بعبد الرحمن شكري والعقاد والمازني. وها نحن نترك ذلك كله ونواجه هذا النمط الذي لم يكن لنا به عهد ولا ألفة. وعندما حان دوري للكلام وتقديم ملاحظاتي، قلت إن السطر الأول من القصيدة يقوم على تفعيلة واحدة هي مستفعلن، ويرتفع السطر الثاني والثالث إلى تفعيلتين، أما السطر الرابع فهو تفعيلتان أيضاً، ثم يأتي السطر الخامس ليمتد في السادس ثم السابع والثامن إلى أن تختمه الجملة دست على شعاعه لما مررت.. وكان هذا التغير في عدد التفعيلات لافتا دالا، فقد كان يشير إلى أن القصيدة الحديثة تتبع– في عدد تفعيلاتها- الدفقة الانفعالية للشاعر في لحظة الكتابة، فكلما كانت الدفقة سريعة وحاسمة انطوى السطر على تفعيلة واحدة، مثلا، كما في السطر الأول الذي يمثل بأحرفه استهلالا نغميا ومحطة للنغم على السواء.
وكما كان هذا الشعر جديدا في إيقاعه لا يخضع لما أسمته الدكتورة سهير القلماوي الأطر التفعيلية أو النظمية الخارجية وإنما يخضع إلى حركة الانفعال الآنية والمتغيرة في وجدان الشاعر، وذلك على نحو يمكن أن يكون معه السطر الأول تفعيلة واحدة مثلا، وتمتد الأسطر بعد ذلك لينطوي واحد منها على ست تفعيلات مثلا. وكانت هذه الملاحظة العروضية هي أول ما لفتت أستاذتنا أنظارنا إليه وجعلتنا نلتفت إلى الحرية الإيقاعية التي تتميز بها القصيدة الحديثة بالقياس إلى القصيدة العمودية القديمة. ثم استطردت في تداعياتها، وقالت لنا إن الشكل العروضي القديم يشبه إلى حد ما، ومع بعض الاحتراس، سرير بروكرست الذي جاء في الأساطير اليونانية مرتبطا بذلك الكائن الذي يستضيف العابرين، فإذا كانوا أطول من سريره، قص الأجزاء الزائدة من أجسادهم حتى تتناسب أطوالهم مع طول سريره، أما إذا كانت قامتهم أقصر من السرير، فقد كان يقوم بشدها لكي يتناسب الجسد المشدود مع طول السرير. وظللنا نضحك على هذا التشبيه ونعرف به لماذا يضيف الشعر العمودي كلمة أو جملة إلى آخر البيت لكي يتمم المعني الذي يغدو أكثر من طول البيت، أو يُكنز المعني لكيلا يطول عن وزن البيت. لكن أستاذتنا استدركت قائلة: أرجو أن لا تنسوا أن القيمة الجمالية ليست في مجرد شكلها أو نظمها العروضي، وإنما هي مرتبطة بما هو أكثر من ذلك، فما أكثر الشعر العمودي القديم الذي يعد في موازين الجمال أعلي رتبة ومقاما من القصائد التفعيلية الحديثة، والعكس صحيح في الوقت نفسه، فالقيمة الجمالية للقصيدة تآلف وتناغم بين كل عناصرها، وزنا وإيقاعا وتصويرا ودلالة وتراكيب نحوية. وصمتت قليلا، وهي تنظر إلينا، كي تتأكد من استيعابنا لما قالته. وبعدها انتقلت إلى دلالات القصيدة، وطلبت منا أستاذتنا أن نفسر لها دلالات الأبيات سائلة هل هذه الدلالات التي نقرؤها دلالات واقعية مباشرة أم دلالات رمزية مجازية؟ وأضافت: من الذي تتحدث عنه القصيدة؟ ومن هذا الذي يتحدث؟ قال بعضنا الذي كان قد قرأ ديوان حجازي قبل ذلك: إن الشاعر يتحدث عن قروي في المدينة، وإن هذا القروي سرعان ما يشعر بالوحدة والحنين إلى قريته عندما يجد نفسه فجأة في عالم القاهرة الصاخب وغير الإنساني بدليل عنوان الديوان الذي جعله الشاعر «مدينة بلا قلب». يقصد القاهرة التي تبتلع الغرباء، والتي تبدو كأنها لا تقبل الغرباء بسهولة، خصوصا عندما يكونون قد أتوا إليها من القري الوادعة ذات الحياة البسيطة الأليفة، أو حتى المدن الصغيرة الوادعة التي تتميز بهدوئها النسبي وصغر عدد سكانها بالقياس إلى القاهرة، فهي مدن أقرب إلى القري في بساطة حياتها التي لا تعرف الصخب أو الضجيج أو زحام السيارات الذي يمكن أن يؤدي بمن لا يأخذ حذره منها إلى الموت. وهذا ما كانت تؤديه قصيدة «مقتل صبي». ولكننا توقفنا أكثر عند الصوت المتحدث في القصيدة، ذلك الصوت الذي صار ضائعا بدون اسم، وفسر بعضنا الضياع على أنه عدم وجود المأوي، بينما فسره البعض الثاني بأنه ضياع الهوية، وفسره البعض الأخير بأنه الغربة بكل معانيها الميتافيزيقية والفيزيقية، وعندما جاء السطر «الحارس الغبي لا يعي حكايتي»، قال واحد من زملائنا إن الشاعر يتحدث عن صدام المواطن بالسلطة، وهو صدام محتوم ما بين المواطن إذا لم يكن له مسكن وبين السلطة التي يشتبه عسكرها في كل عابر سبيل مهما كانت هويته أو درجة ضياعه، وهذا ما قادنا إلى الجدال: هل القصيدة تتحدث في دلالاتها القريبة عن قروي وحيد في المدينة ضاع منه مسكنه أم تتحدث عن الإنسان المعاصر الذي يغترب عن عالمه ويمضي ضائعا بدون اسم في عالم يبدأ من غرفته التي طرد منها ولا ينتهي بالطرقات التي يهيم فيها، شاعرا بأن كل الطرق مغلقة أمامه كأنها تلال متتابعة يدور فيما بينها كأنه وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروب. ويشتد الحصار على هذا الإنسان الضائع والحائر، عندما يشعر بأنه حتى مصابيح الطرق تتحول إلى أعين فضولية تعريه من كل شيء، تاركة إياه وحيدا مع الواحد الذي هو إياه.
وظللنا طوال المحاضرة نتجادل حول الدلالات الرمزية المجازية والدلالات الواقعية المباشرة وأستاذتنا سهير القلماوي تشجعنا على المضي في الاستنتاج تحليلا وتفسيرا. ولا أظن أننا جرؤنا على تقييم القصيدة، فقد كانت جدتها غريبة علينا، كما كانت هي لقاءنا الأول بالشعر الحديث. لكن مع مُضينا في التحليل والتفسير تزايدت الاحتمالات الدلالية، واكتشفنا معني أن الشعر الحر حمال أوجه، وأنه حتى أبسط القصائد وأوضحها سرعان ما تزول عنها هذه البساطة ويفارقها هذا الوضوح الخادع فنكتشف أنه لا وضوح ولا بساطة، كأن مثل هذه القصائد قطرات الماء التي نراها بأعيننا المجردة فلا نلمح ما يعكر صفاءها أو شفافيتها، ولكننا إذا نظرنا إلى هذه القطرات من وراء عدسة ميكروسكوب، ضاعت هذه الشفافية التي توهمناها، والبساطة التي تمنيناها، واكتشفنا أننا إزاء مجرة من الكائنات متناهية الصغر والشوائب التي لا تراها العين وحدها. وهكذا الشعر مهما بدت كلماته بسيطة سهلة، فهي دائما بساطة خادعة وسهولة مراوغة، فهناك تآليف التراكيب النحوية والنظمية والدلالية التي لا يستقل واحد منها عن غيره، بل تتآلف جميعها في نوع من الفاعلية المتبادلة على كل المستويات.
وعدت مع زملائي من جديد إلى قصيدة حجازي بعد أن استمعنا إلى أستاذتنا، وهي تعلمنا الدرس الأول في النقد: لا يوجد نص بريء أو نص أحادي الدلالة، والقصيدة دائما لا تفارق صفات التكثيف الدلالي وتعدد المعاني أو تعدد المستويات، وليس ضروريا ولا ملزما لنا– نحن النقاد- أن نضع في اعتبارنا تفسير الشاعر لقصيدته، فبمجرد أن يفرغ الشاعر من كتابة قصيدته يتحول إلى قارئ مثلنا. وقد يجد في قراءتنا ما يصدمه أو يدهشه. المهم أن نفتح أعيننا على أشدها، ونتخلى عن البراءة والسذاجة، فوراء كل كلمة موصولة بأختها أكثر من معني، ووراء كل تركيب نحوي دلالة، ووراء كل إيقاع موسيقي إيحاء ما. ووظيفتنا هي أن نراوغ الكلمات التي تراوغنا في القصيدة، ومن ثم لا نري فيها مجرد ضياع فتي قروي في مدينة بلا قلب، أو نتحد وجدانيا مع بطل القصيدة، فنري فيها أصداء لغربتنا– نحن أبناء المدن الصغرى أو القرى الذين جئنا إلى الجامعة للتعلم- وإنما علينا أن نرى القصيدة في ذاتها أولا، ونتحسس دلالاتها ثانيا، ولا نغفل عن تضافر ذلك كله مع التراكيب النحوية والتشكيلات العروضية، وكل ما يسهم في إيقاع القصيدة ووحدتها القائمة على التنوع. وعندئذ، فحسب، تكافئنا القصيدة على صبرنا، فنكتشف أن بحث الشاعر القروي عن مكان إنما هو بحث عن هوية، واستبدال جديد يدخله بقديم يتركه. أو نكون إزاء تحول في الهوية، قائم على الإزاحة، وأن السطر: «وسرت يا ليل المدينة، أرقرق الآه الحزينة» إنما هو مسيرة التحول التي تخلع عن الشاعر وعيه القروي ليحل محله وعي مديني، في عملية حتمية من تغير الوعي وتحوله، عملية أشبه بتلك العملية التي تحكي عنها– رمزيا- قصة «النداهة» ليوسف إدريس. هل كانت تلك كلماتي أم كلمات أستاذتي الجليلة سهير القلماوي رحمها الله؟ هل أضفت ما اكتسبته من الممارسة إلى ما كانت تعلمنا إياه؟ لا أدري على وجه التحديد. المهم أنني أسترجع ما علمتنا إياه وما قالته لنا بعد ما يزيد على نصف قرن. مؤكد أن هذا ما تعلمته وفهمته منها وما أزال أتذكره إلى اليوم بوصفه درسنا الأول في نقد الشعر، وهو درس فتح لي الطريق لكي أصبح ناقدا.
* الأهرام.