إكرام لمعي*
لكل بلد قيمه التي يعيش عليها وهي لا تختلف عن القيم الإنسانية العامة المتحضرة. ومصر التي يمتد بها تاريخها لأكثر من سبعة آلاف عام كانت دولة متحضرة تضم بشرا متحضرين قبل الزمان بزمان؛ حيث كان العالم من حولها يعيش حياة الغاب. لقد كانت أول دولة لها قوانينها وقيمها ونظامها وكل من حاربوها في ذلك الزمن القديم كانوا من الرعاة الرُحَّل أو الرعاع… إلخ. وعندما دخلت المسيحية إلى مصر تأثرت بالحضارة الفرعونية وأصبحت مسيحية مصرية سواء في شكل معابدها أو القيم الإنسانية المعيشة، ونفس الأمر حدث عندما دخل الإسلام مصر وأصبح إسلاما حضاريا إنسانيا.
اتفق علماء الاجتماع على أن المجتمع الصحي هو المجتمع واضح القيم الذي يضع قيما عُليا أمامه ويعيشها، وتكون بمثابة فلسفة عامة لا تحتاج إلى مؤسسات دينية تقوم بحمايتها ــ رغم أنها تشجع هذه القيم، ولا إلى ضباط أمن يضبطون من يخالفها؛ ذلك لأنها نابعة من داخل معظم مواطني هذه الدولة بطريقة طبيعية. وهذا الشعب يضع منظومة أخلاقية فوقية يُعليها ويعيش عليها ويتعامل على أساسها وهي: الوعي (العقل) ــ السعادة ــ الحب ــ القوة ــ السماحة ــ الصدق ــ الأمانة… إلخ. وهناك منظومة أخلاقية تحتية يرفضها ولا يعيشها وهي: اللاوعي (تغييب العقل) ــ الشقاء ــ الكراهية ــ الضعف ــ الكذب ــ رفض الآخر المختلف…. إلخ. ولكن عندما تتعرض دولة مثل مصر ــ لها قيمها العُليا منذ عهد الفراعنة ــ إلى هزائم عسكرية وفقر اقتصادي وانهيار لمنظومة المعرفة واختلاط بحضارات أخرى ــ منها ما هو أقل منها معرفة وتحضر ــ بسبب احتياجها للمال من ناحية، وبحضارات تبدو أرقي لكنها تختلف معها في القيم الإنسانية بسبب احتياجها للمعونة الإنسانية والتقنية.
من الناحية الأخرى تهتز القيم في رؤوس شعبها ــ خاصة شبابها؛ حيث إن ثقافته الأصيلة تعرضت لثقافات فرعية متعددة فاختلطت عليه الأمور واختلط ما هو فوق من قيم كان يجلَّها ويقدَّرها بما هو تحت والتي كان يرفضها. وهذا الأمر لا يتم بهذه البساطة والوضوح؛ ولكن ما يحدث هو أن القيم التحتية ــ اللاوعي والكراهية والشقاء… إلخ ــ يصوغها الشعب بتعبيرات تبدو متميزة وسامية ظاهريا وعفنة ومدمرة باطنيا. وسأذكر لكم ثلاثة أمثلة فمثلا قيمة الحب وهي إحدى القيم العليا المطلقة التي تعيش عليها الشعوب المتحضرة، أي أن الإنسان لا يشترط شرطا معينا لكي يحب الآخر (الذي ليس هو أنا) على جميع المستويات، لذلك فحبي لهذا الإنسان لكونه إنسانا؛ ذلك الذي يشاركني الوطن أو لا يشاركني، والذي يشاركني الدين أو المذهب أو لا يشاركني، والغني والفقير والمتعلم والجاهل… إلخ. وقد كان هذا واضحا منذ الحضارة الفرعونية ومتأصلا في الشعب المصري.
عندما قامت الثقافات الفرعية بغزو ثقافتنا الأصلية بدأنا نسمع تعبيرا لمن يختلف معنا في الدين «إني أكرهك في الله»، وهذه الجملة متناقضة لأن الله يحب كل خليقته بدون استثناء حتى أولئك الذين لا يعترفون بوجوده، ثم إن هذه الجملة فيها احتكار لله وللحقيقة المطلقة وكأن الله غير قادر على الدفاع عن نفسه. وهكذا تبدو الجملة غريبة التكوين فضلا عن أنها دخيلة على حضارتنا التي تجمع جميع الأطياف في منظومة حب منذ الأزل. وفي المنظومة العليا أيضاً نجد مفهوم القوة من أكثر المفاهيم التي حدث بها خلط في الخبرة البشرية؛ فلقد ارتبطت القوة بالسلاح والحرب والتدمير؛ فالذي يملك القوة بهذا المعنى فإنه يملكها لإفناء نفسه وإفناء عالمه كما حدث في هيروشيما. ونحن نرى أكبر استخدام للقوة بهذا المعني في شرقنا الأوسط؛ فالغالبية العظمي من الضحايا من الشعوب المغلوبة على أمرها، ورأينا ملايين المهاجرين الذين يعيشون في معسكرات بعد تركهم بيوتهم ومدارسهم وحياتهم، ومن يموتون في البحر هربا من القتل فيموتون غرقا ونجد بلادا تستنزف معظم مواردها لتتخلص من رؤساء دول أخرى لأسباب شخصية.
بالبحث في ثقافتنا الأصلية منذ الفراعنة نجد أنهم سخَّروا قوتهم للإبداع وسعادة الإنسان وهنا تكمن القوة الحقيقية؛ لأنها ارتبطت بالإبداع والفن ورفاهية الإنسان. وهكذا ظهرت حضارات عظمي جاءت متأخرة عن حضارتنا بآلاف السنين؛ لأنهم فهموا معني القوة الحقيقية بعد حربين عالميتين قُتل فيها الملايين، وهكذا بنوا أنفسهم وشعوبهم على العلم والإبداع والتقدم. أما نحن فندمر أنفسنا ومن حولنا ظنا منا أنها القوة الحقيقية وهذا تأثير الثقافة الفرعية التي اختلطت بثقافتنا الأصلية. وبعد اجتياز عدة حروب وما ترتب عليها من انهيار اقتصادي وتعليمي؛ بدأنا نقف مع أنفسنا نبحث عن القوة الحقيقية لأجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة. أما الطامة الكبرى في تأثير الثقافة الفرعية فقد جاءت في قيمة الوعي أو العقل؛ فالوعي في حضارتنا الفرعونية يأخذ الأولوية الأولي، وفي مصر الحديثة بدأ محمد على تحقيق هذا التصور مستلهما من التاريخ المصري القديم وعلى مدى الأجيال قيمة العقل. وهكذا أخذ هذا الرجل ينبه على أهمية التعليم والتحضر والاتصال بأوروبا؛ وقام بإرسال المصريين النابهين إلى فرنسا وتبعه في ذلك سعيد وإسماعيل وظهر رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده وبعدهما عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ… إلخ.
وقامت حركة ضخمة تضع الوعي في المرتبة ال أولى مع حرية الفكر والاجتهاد في مكان أعلى، إلا أنه بسبب الحروب وتضارب السياسات والدكتاتورية والفقر بدأت فكرة الوعي تنحدر إلى أسفل وترتفع قيمة اللاوعي إلى أعلى. وبظهور طبقات غنية من الحرفيين غير المتعلمين وأولئك الذين عادوا من الخليج بثقافات فرعية بدأت تظهر في تصور وخيال الإنسان المصري صورة جديدة للوعي واللاوعي؛ فأصبح اللاوعي له اليد العليا وهنا ظهرت مصطلحات تعبر عن هذه التصورات مثل «عامل دماغ» والمقصود هنا إنسان يشرب الحشيش أو يشم الهيروين فيُحَلِّق في الفضاء ــ والدماغ هنا هو العقل. وهكذا ارتفع اللاوعي وصار هو الدماغ الحقيقي أو العقل المطلوب؛ فالإنسان يحتاج إلى أن يغيب عن الوعي ــ يعمل دماغ ــ كشرط للإبداع، في الوقت ذاته أُطلق على الميكانيكي وسائق السيارة «مهندس» و«دكتور»، ويقال «دكتور» بقصد السخرية الشديدة من العلماء.
وظهرت أفلام ومسلسلات تسخر من العلماء وهكذا نزل الوعي وأصبح قيمة تحتية ولم يعد الاحترام لصاحب الدرجة العلمية أو لفكرة قيمة. وهنا عادت الأصولية الدينية بقوة وارتفعت نغمة التكفير ومحاكمة الأفكار سواء في المسيحية أو الإسلام. ولنا في قانون ازدراء الأديان المثل الأعلى في غياب الوعي عند مُنَظِّري القوانين الذين كانوا دائما ما يدافعون بقوانينهم عن الحريات والإبداع. وانتشرت الحركات الدينية التي تدعو إلى انتظار المعجزات والخوارق وإلغاء العقل والوعي عند الإنسان؛ فالتحصن بالماضي إضافة إلى الالتجاء إلى الغيبيات أعلي من شأن اللاوعي وجعل له اليد العليا ووضعه في المنظومة العليا في تصورات الإنسان المصري في الحقبة الأخيرة، وكل هذا بسبب الثقافات الفرعية التي أصابت الثقافة المصرية القديمة في مقتل.
فهل هناك من مخرج لنا من هذا المأزق القاتل لكل إبداع وتقدم؟!
* الشروق.