المقهى والثقافة


*أمجد ناصر

هناك مدن لا تعرف مقاهي الرصيف، لندن واحدة منها ولكن ليس الآن. كان هذا صحيحا قبل نحو عقدين، عندما لم يكن المهاجرون يشكلون ظاهرة طاغية في عاصمة بلاط سانت جيمس، أو “مدينة الضباب”، كما يحلو للتنميطات الجاهزة أن تصفها.

الـ PUB هو مقهى البريطانيين وحانتهم ومطرح اللقاءات الاجتماعية وتزجية الوقت وليس المقهى. وهذا مرفق داخلي بامتياز، قاتم، تفوح منه رائحة البيرة، إضافة الى تلبّده بدخان السجائر والسيجار عندما كان التدخين مسموحا به في الأماكن العامة.
هذا الانكفاء الى الداخل والقتامة يناسبان، على ما لاحظت، المزاج الإنجليزي العام الذي سرعان ما يتخفف بجرعات الكحول المتسارعة من ثقله وقتامته فيتحوَّل الى الود أو.. العنف.
لكن لندن صارت اليوم، مدينة مقاهي رصيف. مدينة تستهلك من القهوة ربما بقدر ما كانت تستهلك من الشاي، مشروبها الذي لم يكن هناك منافس له حتى وقت قريب. لقد غير المهاجرون، إلى حد كبير، أساليب عيش هذه المدينة ومزاجها، ولكن مع ذلك فعندما نتحدث عن الأمكنة التي يتردد اليها المثقفون البريطانيون، ولهم فيها تاريخ وحكايات، فنحن نتحدث، غالبا عن الـ Pubs وليس المقاهي.
وهذا، بالتأكيد، ليس حال المدينة الأوروبية الأقرب إليها والمنافس التاريخي لها: باريس. عندما ذهبت إلى باريس لأول مرة، في مطلع تسعينات القرن الماضي، طلبت من صديقي الكاتب السوري الراحل جميل حتمل أن نزور المقاهي التي كان يجلس فيها الأدباء الذين قرأنا لهم وأثرت فينا كتاباتهم مثل ألبير كامو وسارتر، أو الأجانب الذين أقاموا فيها كصموئيل بيكت وجيمس جويس وهمينغواي وهنري ميلر.
كنت أتصور أن الأمر يتعلق بمقهى واحد أو اثنين، فاكتشفت أنها مقاه عدة، كانت في ماضيها الذهبي أشبه بأحزاب فكرية وفنية. فمقهى “ديماغو” في حي سان جرمان يحمل آثار مرور أكبر شعراء الفرنسية قاطبة: فيرلين، رامبو، مالرميه، فيما كان أندريه بروتون وجماعة السرياليين يتخذونه “موقعا” لهم وقاموا على تأسيس جائزة أدبية طليعية باسمه.
وفي فترة لاحقة تمترس سارتر وجماعته من الوجوديين في مقهى “دي فلور” في حي سان جرمان، في حين كان يواظب صمويل بيكيت على الذهاب إلى مقهى “كوبول” في مونبرناس فيجلس في ركن معين حتى أواخر حياته لا يكلم أحدا.
وفي إحدى زياراتي إلى باريس قادني الكاتب العراقي الصديق شاكر نوري -الذي أقام في “عاصمة النور” طويلا- إلى لقاء مع الكاتب الفرنسي من أصل مصري أللبير قصيري في منطقة “سان جرمان دو بري”. التقينا بقصيري في مقهى صغير بجانب فندقه الذي أمضى فيه أكثر من ستين سنة من حياته ولم يبرحه حتى مماته عام 2008.
كان صاحب “شحاذون ونبلاء” قد فقد صوته بسبب مرض سرطان الحنجرة، على ما أظن، وبدا لي صعبا بل مستحيلا الحوار معه. وقد علمت حينها أن مقهى قصيري المفضل هو “دي فلور” الذي كان، لفترة طويلة، إحدى علاماته المميزة.
لا تزال هذه المقاهي التي شهدت ولادة حركات فنية وأدبية وفكرية، ودارت فيها نقاشات انعطافية في تاريخ الثقافة الفرنسية والعالمية تواصل حياتها في الأماكن نفسها وبالأسماء ذاتها وإن تغيرت طبيعة روادها ومشاغلهم.
كما أنها لا تزال تحتفظ بآثار وصور الذين أسهموا من خلال كراسيها وطاولاتها وفضائها المشبع برائحة القهوة والسجائر الفرنسية الحريفة (أيام التدخين مطلقة السراح!) في إغناء الثقافة العالمية، فتجد صور هؤلاء وغيرهم من الكتاب والفنانين والسياسيين معلقة على جدران المقاهي التي كانوا يرتادونها.
وقد أصبحت هذه المقاهي، رغم تغير نمط الحياة الفرنسية وتأثرها بالايقاع الأميركي السريع، محجا للسياح الأجانب الذين قرأوا لهؤلاء الكتاب أو سمعوا بأسمائهم. وهذا هو الحال في كثير من الأمكنة التي تحترم تاريخها ولا تلغيه، تحت أي إغراء، بـ “حفنة دولارات”.
ففي مدينة سان فرانسيسكو تحتفظ بعض المقاهي بالكراسي التي كان يجلس عليها أعضاء “جيل البيت” الذين صنعوا أكبر ثورة في الإبداع الأدبي والفني الأميركي المعاصر.
في حوار صحافي مع الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، الذي أقام في سان فرانسيسكو أكثر من ثلاثين عاما، يقول إن مقهى “فيروف”، الملاصق لمكتبة ومنشورات “سيتي لايتس” التي يملكها عراب “البيت” الشاعر لورنس فيرلنغيتي (الذي حالفني الحظ وقرأت معه في أمسية شعرية ذات يوم) لا يزال يحتفظ بكرسي الروائي جاك كيرواك، أشهر كتاب “البيت”، كأثر خالد.
ولكن ماذا عنا نحن العرب؟
الجواب، بطبيعة الحال، مؤلم.
يمكن القول، بأسى يليق بتاريخنا، إن مقهيي “هورس شو” في بيروت و”ريش” في القاهرة، الأشهر عربيا على هذا الصعيد، لم يعودا موجودين إلا في ذاكرة من أمَّهما ذات يوم. فالمقهى الأول الذي كان يجلس فيه رواد الشعر العربي الحديث واللاجئون السياسيون العرب في بيروت حوَّله أصحابه إلى مطعم للوجبات السريعة (تيك أوي) والثاني تغيرت أجواؤه وطبيعة رواده تماما بعد فترة توقف طويلة.
فعندما نذكر “هورس شو” في بيروت يخطر في بالنا أودنيس، يوسف الخال، محمد الماغوط، عبد الوهاب البياتي، أنسي الحاج، أما “ريش” فيذكرنا بنجيب محفوظ ويوسف إدريس وجيل الستينات في الكتابة المصرية. وهو المقهى الذي هجاه الثنائي إمام -نجم بأغنية شهيرة يرد فيها “مقهى ريش” بالاسم:
يعيش المثقف على مقهى ريش “
يعيش يعيش يعيش 
محفلط مزفلط كتير كلام 
عديم الممارسه 
عدو الزحام 
بكام كلمة فاضيه 
وكام اصطلاح 
يفبرك حلول المشاكل قوام 
يعيش المثقف 
يعيش يعيش يعيش”.
وبصرف النظر عن الراديكالية الصلفة لهذه القصيدة – الأغنية فهي تعكس الموقع الذي كان يحتله مقهى “ريش” في حياة الأدباء المصريين والحياة الأدبية نفسها حتى صار مرادفا لها.
لم أدخل مقهى “ريش” إلا مرة واحدة. فعندما زرت القاهرة أول مرة كان المقهى قد أصبح خارج حركة المثقفين المصريين، وحل محله، خصوصا للمثقفين الأقل تكريسا في الثقافة المصرية، مقهى “زهرة البستان” وهو على بعد خطوات من “ريش”.
لكن “ريش” حاول، بعد سنين من تغيير جلده، أن يعود الى سيرته الأولى فدشَّن أهم نشاطه الجديد باحتفالية بنجيب محفوظ عندما بلغ رائد الرواية العربية الحديثة التسعين من عمره.
أما مقهى “هورس شو” فقد حاول أصحابه أن يعيدوا مجد مقهاهم المرتبط، على نحو أو آخر، بتاريخ الحداثة العربية، فافتتحوا مقهى آخر يدعى “سيتي” ليس في شارع “الحمراء” الذي كان “هورس شو” يقع على إحدى زواياه بل في منطقة داخلية نسبيا تدعى “قريطم” تستمد شهرتها من وجود “قصر” آل الحريري فيها، لكن “سيتي” لم يتمكن من استعادة “هورس شو” ولا هو، فعليا، يطمح إلى ذلك.
كل ما فعله أصحاب “سيتي” أنهم علقوا صور أشهر رواد مقهاهم السابق وكذلك اللوحات التي تبرع بها، على عجل، فنانون تشكيليون لبنانيون ظنوا أنهم بذلك قد يستعيدون “هورس شو” وإن باسم آخر.
أما لماذا لم يصبح المقهى الجديد “هورس شو” آخر؟ السبب بسيط جدا، فالمثقفون العرب، وهم كائنات مولودة تحت برج الفقر والنحس، يمضون سحابة وقتهم في المقاهي على “طلب واحد”. وهذا أمر لا يسرُّ أصحابها.. فيسلطون عليهم النادلين الذين لا يتوقفون عن سؤالهم عما إذا كانوا يرغبون في طلب آخر.. أو يظلون ينظرون إليهم شزرا حتى يولوا الأدبار!
هناك مقاه مماثلة في عواصم عربية عديدة ولكنها لم تنل شهرة هذين المقهيين في الحياة الثقافية العربية وذلك بسبب ارتباط مقهيي “ريش” و”هورس شو” بفترات مفصلية في تاريخنا الثقافي والسياسي، وبأسماء ريادية على صعيد الشعر والرواية والصحافة والمسرح.
ليس في استعراضي هذا للمقهى وعلاقته بالثقافة أي تمركز مشرقي كما يمكن أن يتبادر للقراء الأعزاء في بلدان المغرب العربي، فأنا لم آت، كذلك، على ذكر المقاهي العراقية والسورية التي كانت شاهدة على أسماء ونقاشات وتحولات حاسمة في الحياة الثقافية في هذين البلدين العربيين الكبيرين.
ذلك لأنها كانت، في ظني، ذات طابع محلي ولم تتحول -العراقية خصوصا- إلى فضاء عربي للثقافة، كما كان عليه حال بعض مقاهي القاهرة وبيروت الذي اجتذب مثقفين وسياسيين وفنانين من خارج الفضاء المحلي باعتبار تينك المدينتين كانتا حاضنا للمثقفين المنفيين واللاجئين السياسيين العرب الذين كانوا يفرون من عسف بلادهم.. بمن فيهم مثقفون وسياسيون من بلاد المغرب العربي.
______
* شاعر من الأردن (الجزيرة)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *