ليس أقل من كارثي


*ناصر كامل


الثقافة في أزمة لكن المسرح في كارثة، تبديل أسماء المسارح الراجعة إلى روّاد قدامى، بأسماء محدثين من دون أن يرتفع صوت يندد، من علائم الكارثة. المسرح المصري هو للدولة ويخضع لبيروقراطيتها. مسرح الدولة يُحتضر فيما المسرح الخاص في بيات، فكيف ينتج وضع كهذا كتّاباً للمسرح؟
لم يعد يجادل أحد في أن الثقافة المصرية تمر بـ «أزمة»، يبدأ الجدل من طرح أسئلة عن مداها وعمقها وتوصيفها. يفترق المسرح عن باقي مكوّنات الثقافة المصرية بأنه تجاوز «الأزمة» وبات يعيش واقعاً «كارثياً» يقتضي التفكير بمداخل «إغاثية»، يبدو للأسف أن مقوّماتها غير متوفرة حاليا.
«أزمة» الثقافة المصرية علاماتها الظاهرية مبثوثة بكثرة، يكفي منها: سجن كتّاب وباحثين وشعراء لمجرد نشر إنتاجهم الأدبي أو تعبيرهم عن آرائهم، كما يكفي لمعرفة توجه المؤسسة الثقافية الرسمية أن نستدعي حيثيات منح جائزة النيل في العلوم الاجتماعية للدكتور أحمد عمر هاشم، الذي «طالب في عام 2000، عندما كان يشغل منصب رئيس جامعة الأزهر، بسحب رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري حيدر حيدر من السوق ومنع تداولها، قائلا: «الفجور ليس من الفن والإبداع».
مسرح الدولة
مفارقة المسرح أن أواصره بالدولة ما زالت «مؤسسية»، فيما انسلّت باقي مكونات الثقافة وقطعت، بدرجات متفاوتة، الكثير من أواصرها معها. فالدولة هي المنتج الرئيسي، وفي أحيان ومواقع كثيرة، الوحيد، للمسرح، وهي المهيمنة بصورة مطلقة على مجمل نشاطاته، حتى ليبدو المسرح وكأنه أسير بين يدي الدولة، تفعل، أو لا تفعل به ما تشاء، هكذا وقع التكريم الأخير للفنانة سميحة أيوب، وزير الثقافة السابق قرر تكريم عدة فنانين مسرحيين بإطلاق أسمائهم على مسارح الدولة، لم يتوقف أحد أمام الأمر، مضت أيام وإذ بالقرار ينفذه الوزير الحالي، ويتم رفع اسم جورج أبيض من قاعة المسرح القومي ويُستبدل باسم الفنانة التي تلقب بـ «سيدة المسرح العربي». بين رفع أسماء ووضع أخرى بدا أنه ليس فقط الذاكرة و «التاريخ» يهانان، بل إن ما يهان أكثر إنسانية، فإذ تقبل الفنانة أن يُمحى اسم أستاذها ويضع اسمها مكانه، فكيف لا تجد ذكرى الرائد الكبير من يعترض، وإن بصوت خافت، كما لم تجد ذكرى فاطمة رشدي من يدافع عنها، وهذه الواقعة تكشف عما هو أعمق، إنها تذكرّنا بأنه ليس فقط لم يُضَف مسرح جديد في مصر منذ أكثر من ثلاثة عقود، بل إنها تناقصت.
تخبرنا ميزانية «البيت الفني للمسرح» الذي يضم تسع فرق مسرحية في القاهرة وواحدة في الإسكندرية أن الدولة تخصص للمواطن المصري نحو نصف جنيه (خمسين قرشاً) سنوياً للإنتاج المسرحي، فميزانيته السنوية نحو خمسين مليون جنيه، وإذا جمعت كل المبالغ المخصصة للمسرح في الموازنة العامة للدولة من خلال هيئات ووزارات أخرى فلن يضاف لنصيب الفرد إلا بضعة قروش.
وسيكون السؤال، بعد التسليم بأن مصر دولة «فقيرة» تعيش أزمة اقتصادية مركبة وممتدة: كيف تنفق هذه القروش القليلة؟ كيف تتصرف الإدارة؟
تتصرف وفق أسوأ وأكثر طرق الفساد المالي والأخلاقي إبداعاً، منها مثلا: الفنانون «الموظفون» غالبيتهم العظمى لا يعملون، ويتم التعاقد مع فنانين من خارج هذه الفرق بعقود مبالغ في قيمتها المادية وشروطها الفنية. نظرياً الفرقة المسرحية لها استقلال مالي وفني، عملياً من يقرر كل المسائل الفنية والمالية مركز بيروقراطي صغير للغاية ـ شخص واحد في الواقع ـ هو الذي يختار النصوص والمخرج والفنانين. الغالبية العظمى من العروض المقدمة لا تجد من يشاهدها، بعض المسرحيات جمهورها بعدد أصابع اليد الواحدة، ولذلك لا تقدم تلك المسرحيات إلا لأيام معدودة.
النتيجة أن هناك جسداً عملاقاً؛ عشرات الآلاف من الفنانين والعاملين؛ يسير على قدمين عليلتين، يعيش العملاق عبر شرايين الدولة التي تضيق وتنسد يوماً بعد يوم.
مسرح «الدولة» يُحتضر منذ سنوات، هذه باتت «حقيقة» واضحة، مسرح الهواة الذي تنفق عليه الدولة «مسرح قصور الثقافة» في حال أفضل، فهو ليس موضوعاً تحت منظار «الكفاءة» الاقتصادية، وحساب الجمهور، لكنه هو الآخر يعاني من تدنٍ مطّرد في المستوى، وتعصف به أنواء مختلفة من الفساد المالي والقيمي.
مع المسرح المدرسي سندخل في متاهة معقدة، فالتعليم في مصر عوالم متناقضة للغاية، في طرفه الأقصى التعليم الأزهري، أكثر من مليون ونصف المليون تلميذ محرومون من أي نشاط فني، والمسرح في القلب منه، في الطرف الأقصى المقابل التعليم الأجنبي والخاص باللغات الأجنبية هناك سنجد اهتماماً بالمسرح وعروضاً سنوية للتلاميذ، التعليم العام هو الكتلة الأكبر وفيه المسرح «ترف» لا يجرؤ أحد على مقاربته.
في الجامعات سنرى تغيراً طفيفاً، فالحكومية منها ترصد ميزانية – ضئيلة في الواقع – للمسرح وتقدم فيها عروضاً واعدة، الأزهر والجامعات الخاصة والأجنبية امتداد لواقعها في التعليم العام.
المسرح الخاص
المسرح «الخاص» في حال بيات طويل لأنه طوال العقود الأربعة الماضية كان يعتمد أساساً على السياحة العربية ويتركز نشاطه في فصل الصيف، وبعض فرقه تخرج من بياتها هذا لتقدم مسرحياتها في أيام الأعياد فقط.
تبقى فرق الهواة، والفرق التي تتلقى دعماً من جمعيات ومؤسسات أجنبية ودولية وهي تعاني بدورها من وطأة الضغوط السياسية وافتقاد قاعات العرض، واضطرابات أمنية واجتماعية تتركز على «وسط المدينة» حيث مجالاتها الجماهيرية المتوقعة.
هذه الصورة العامة لواقع المسرح لا بد من أن تكون مؤثرة للغاية على الكاتب المسرحي الذي يقع تحت وطأة مشاكل أخرى: الناشرون خارج مؤسسات الدولة يحجمون عن المجازفة بنشر نصوص مسرحية يتوقعون أن لا تلقى رواجاً، دور النشر الحكومية تفعل المثل، وإن جازفت كما تفعل الهيئة العامة لقصور الثقافة تجازف بنسخ لا تحقق حتى الإشباع الأدبي للكاتب وبالتأكيد لا تلبي مادياً ما يدفع لمواصلة الطريق، لا متابعة نقدية محفزة؛ فحتى المجلة الوحيدة «المسرح» متعثرة وغير منتظمة الصدور، محدودة التوزيع، والصحف والمجلات تضع المسرح في ذيل الاهتمام ولا يلحق بذلك الذيل متابعة نص مطبوع، المسابقات والجوائز تتوقف واحدة إثر أخرى، والأحكام النقدية قاسية إن لم تكن «مجحفة»، أو هذا ما بدا حين قررت لجنة التحكيم في المهرجان القومي للمسرح في دورته قبل الماضية حجب جائزتي «أفضل نص مسرحي وأفضل مؤلف صاعد»، وكان الحكم «الفني» الأقسى أن الغالبية العظمى من مسرحيات المهرجان المسمى «القومي» لنصوص غير مصرية: عربية وأجنبية.
________
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *