ليس أفضل من نفسك لنصحك


*نويمي فيرو

أعتقد أنّ المشوار في شوارع مدينة جديدة -خاصة عندما تكون وحيداً- هو الطريقة الأعمق لاكتشاف كيف يتنفس المكان.

وصلت الى مطار طرابلس بحقيبة ممتلئة بالأمل وبوزن زائد. صراحة في ذلك الحين(نهاية سبتمبر 2013) لم أكن مهتمّة بسياسة البلد ومجلس النواب والمليشيات وتشكيل نظام جديد بعد اكثر من أربعين سنة من نظام قديم؛ لأن كلنا نعرف أن بلداً جديداً لا يظهر كنبات فضائي في ثانية ولو بمساعدة جين مميّز، وأنا -أيضاً- كنت أعرف أنني لن أصبح مشاهدة لكل هذه التغيرات المرجوّة خلال فترة قصيرة ،هي سنة وقتي المسطّر لتدريس اللغة الإسبانية في الجامعة. إن طموحاتي كانت بسيطة للغاية، أهمّها أن أترك نفسي هبة لمدينة تحكي معي بدون مترجم يروي إحساسها.

ذرعت شوارعها دون هدف، مشيت ومشيت كثيراً، وقالوا لي لا تمشي وحيدة بالشوارع، فهذا خطير ،وقالوا لي لا تدخِّني، ودخَّنت كثيراً في المقاهي. أحياناً لا يوجد أفضل من نفسك لنصحك. بفضل المشوار وجدت مسجداً عظيماً في ميدان الجزائر، كان في الماضي كنيسة. ومقابل بابه الرئيسي بقيت ساعات طويلة، فقط لأستمتع بالمنظر العجيب، بالمعمار المذهل. وواصلت المشي لأجدني أمام مكتبة الفرجاني، قضيت وقتاً أطول أمام الكتب والروايات، فقط لأستمتع بالمنظر وبحوار صاحب المكتبة الذي عرَّفني أكثر بثقافة ليبيا وتاريخها.

كان الأدب الليبي بالنسبة لي شيئاً يشبه البلد، أي أمراً شبه مجهول. كانت معلوماتي عن الكُتّاب الليبيين تنحصر في أسماء قليلة سمعت عنهم، وأنا جالسة على كرسي داخل قاعة جامعة إسبانية أيام دراستي للغة العربية آنذاك، ولكن -الآن- قد ظهرت الفرصة كنبات فضائي لأدخل بعيني إلى كل هذا العالم الجديد والقديم. صدفة توقفت نظرتي عند عنوان رأيته على رفّ المكتبة: ملح.. من هنا بدأت القصة. ذكرياتي الأسعد، منذ طفولتي وحتى الآن، مرتبطة بشاطئ البحر والملح؛ ولذلك فكرت: هل هناك احترام أستطيع أن أقدّمه لشعب مجهول، أكبر من قراءة شعور وأفكار أدبائه؟

تساءلت، فأجبت بالنفي. هل هناك احترام أكبر قد أقدمه لشعب مجهول من استماع طموحات جيل الشباب وهم يدرسون لغتي بالجامعة؟ تساءلت، فأجبت بالنفي. وبهذه الطريقة، مأخوذة من مشوار طويل، قررت، من غير حاجة إلى تحليل عميق مع نفسي ومن غير بذل جهود ،أن أترك صوتهم عند صخبهم يرتقي وينخفض إلى حَدّ الهمس، وأنا لا أفعل شيئاً سوى أن أسمع، عربيتهم المخلوطة بالدارجة الليبية، والتي يمكن فهمها بقليل من التركيز، كما يحدث لنا مع جيراننا في المغرب… من خلال ترك سمعي لصخبهم وهمسهم، عرفت أن الشعب الليبي حكّاء بامتياز، وأن لديه حكايات عديدة، شائقة معبِّرة عن معاناة الحياة، فرحها حزنها، ضحكها، دموعها التي بطعم الملح.

حقاً سمعت الكثير عن الأدب الليبي، سمعت الكثير من مختلف الأطراف. سمعت كلاماً عن محمد العريشية كاتب ونائب في المؤتمر الوطني آنذاك، سمعت عن معنى روايته «الأيام الاخيرة في علاج»، قابلته، وشرح لي وجود العنف في روايته المذكورة. سمعت كلام البائع التونسي الذي كان يحكي معي عندما كنت أزور دكانه ( القرطاسية ) لشراء الأقلام للسبورة. وأتذكَّر -بشكل واضح، حتى الآن- ضحكه الذي كان يجعلك تطمئنّ وتثق بأن كل الأمور على ما يرام، والبلد -إن شاء الله- يمشي حاله على الرغم من أخبار التلفاز المخضَّبة بالدماء.

سمعت الكثير ولم أشبع. سمعت كلام محمد الأصفر حين تعرفت عليه أخيراً في طرابلس، كان ذلك منذ ستة أشهر، وقد جاء من بنغازي عبر رحلة بريّة منهكة. سمعت اقتراحاته، حماسته، تأمّلت عرقه الذي لا توقفه أي مناديل، اتفقنا على التعاون، وسمحت إمكانياتي باختيار رواية من بين روايتين له لكي أترجمها. اتفقنا بين فنجاني قهوة في ساحة ميدان الساعة، كان بصحبته صديقه الفنان التشكيلي رضوان بوشويشة الذي كان يحكي معي باللغة الإسبانية بطلاقة!! رغم أنه يعاني مشاكل في الصوت بسبب مرض في حنجرته، لكن روحه تجعل كل ما ينطق به يصل إلى مواضع الإدراك، استغربت كيف يتفاهم الأصفر الذي يعاني من ضعف السمع مع صديقه بوشويشة الذي يعاني من ضعف النطق، لكن ،بمراقبتهما- قليلا-ً عرفت أنهما أحياناً يستعينان بورقة وقلم أو بشاشة الموبايل، وأنّ بعض اللحظات التي لا تعوَّض، مثل هذه، سمحت لي أن أدرك أني لن أعرف إن كان البلد سينهض من كبوته أم لا.. المشاهد التي أراها في الشارع تجيبني.. الشعب الليبي لم يتوقّف عن الحياة.. أحسست بلطف الرجل المسنّ ،يصرف اليورو إلى الدينار الليبي ويتشمّس عند باب محلِّه الخاص ببيع اللؤلؤ والفضّيات. كَلَّمته باللغة الإيطالية، فانتبه من أول نظرة: أهلاً بجارتنا في الخريطة.. أهلاً وسهلاً، وقَدَّم لي الماء البارد المنعش، فاستأذنته كي أشعل سيجارة فسمح لي بلطف، وقدم لي منفضة السجائر الزجاجية النظيفة جداً.

سمعت نبذة دسمة عن تاريخ ليبيا المعاصر من خلال محمد الخروبي، فنّان الخطّ العربي، وهو يسوق سيارته الصغيرة باحثاً معي عن شقة للإيجار. من حسن الحظ نجحنا في الحصول عليها بعد عدة مشاوير متعبة، البحث عن مأوى في العاصمة طرابلس لم يكن سهلاً، بل شبه مستحيل، لتوافد أعداد كبيرة من النازحين إليها، وهذا أعطاني الفرصة لتدوير الكلام والسيارة معاً. تعرَّفت إلى زميله محمد بركة في الورشة حيث كانا يعملان في المدينة القديمة، حارة اليهود، في مكان كانت تشغله القنصلية البريطانية سابقاً.

التسكُّع دون وجهة في شوارع مدينة هو أفضل طريقة لاكتشاف كيف يتنفَّس المكان. والمعاملة مع الناس مباشرة تمنحك الحميمية التي تشعرك أن وطناً جديداً بدأ يشيِّد نفسه داخل وجدانك.

وعندما تمنع الظروف الأمنية الخارجية عنا المشي بزنق المدينة وميادينها وشوارعها، لا شيء أفعله سوى أن أفتح الشرفة، وأجلس على كرسي بلاستيك أبيض، أستمتع بالقراءة، وأكتشف ليبيا أكثر من خلال ما يكتبه كُتّابها وكاتباتها، وأنا أقرأ في متعة، لا أكترث لأصوات القصف والمفرقعات ورائحة البارود التي تغزو المكان، في حضرة الأدب أنسى الدمار، فأنا -ذاك الوقت، في أثناء فعل القراءة – أشيّد ما تهدَّم داخلي.. جميلة هي ليبيا.. خاصة إذا ابتسمت.
_______
*أستاذة الأدب الإسباني في طرابلس /الدوحة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *