الخصائص العمرانيّة والحضاريّة للمــدن من خلال رحلة ابن بطّوطــة


*طارق العمراوي


خاص ( ثقافات )
إنّ لأدب الرّحلات فضلا كبيرا في تزويد الدّراسات الأثريّة والتّاريخيّة بمجموع معطيات لم تكن لتتوفّر في مراجعنا ومصادرنا لولا جرأة الرّحّالة العرب وغيرهم على الكتابة والوصف.
هذا الوصف تستمدّ منه الرّحلات مشروعيّتها وأهمّيّتها كوثيقة يعتدّ بها بعد إخضاعها لجملة مقاييس وضوابط بهدف جعلها موضوعيّة قدر الإمكان خاصّة بعد اندثار بعض المعالم والمواقع التي مرّوا بها وحدّثونا عنها وضياع تقاليد ، عادات ومعتقدات الشّعوب التي لم تتمكّن من كتابة تحضرها وقواعد تمدّنها.
وهاهي رحلة ابن بطّوطة ” تحفة النّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” تستوقفنا لطرافة ما ذكر فيها وما وقف عليه وعايشه وتحدّث عنه مصاحبا في كلّ ما ذكر وكتب قواعد هامّة نراها تعاد وتتكرّر وكأنّ ابن بطّوطة ألزم بها نفسه منذ بداية رحلته أوهى قواعد تعكس جملة قناعات وثوابت تحرّك صاحب الرّحلة فلا يتقدّم خطوة إلاّ بعد أن يعلّق على جملة هذه القواعد التي حاولنا جمعها وتقديمها تحت عنوان ” الخصائص العمرانيّة والحضاريّة للمدن”.
فما هي هذه القواعد التي تشكّل جامع هذه الخصائص؟
ما مدى وفائه لهذه القواعد؟
تتوزّع الرّحلة بين مدن شتّى أطنب صاحب الرّحلة وصف بعضها في حين لم يذكر الأخرى إلاّ في سطرين أو ثلاثة معرّجا عليها فقط لنتمكّن من متابعة سير الرّحلة وتنقّله وأي طريق قد سلك.
تعدّ الرّحلة عدّة قرى ومدن وأقاليم حاول تجميعها والحديث عنها تحكمه عدّة خصائص يستحضرها إمّا في بداية الوصف أو في آخر الحديث وقد حاولت حصرها بين الموقع، المناخ، العمارة ومعالمها ، تاريخ وخصائص المدن وتعاليقه على الحس الحضاري وغيرها .
أ‌) – الموقــع: إنّ اختيار مواقع المدن والقرى هي من المسائل التي تستوجب التّفكير، الإمعان والتّبصّر فبها، يستقيم العيش وتتوفّر متطلّباته من دفع المضارّ وجلب المنافع كما يذهب إلى ذلك ابن الأزرق.
ومن ضمن هذه المواقع نذكر مدينة “سنجار” مبنية في سفح جبل، و”مردين” في سطح جبل وهذه مدينة”عدن”تحف بها الجبال وأخرى على تل في وسط المياه، بسط من الأرض، على نهر وتل، ساحل الخليج وغيرها من المواقع الحصينة طبيعيّا والتي يتمّ تحصينها بالقلاع والحصون والأسوار كالذي بمدينة أنطاكية ليتعدّاها إلى “سعة المياه المستعذبة” لتكون بهذه المدن البساتين والجنان واختراق أراضيها بالأنهار الجارية كمدينة حمص وأنهارها المتدفّقة وهذه دمشق يطنب الوصف عندها هذه التي “تجلّلت في حلل سندسيّة من البساتين ….وماء سلسبيل، ورياض يحي النّفوس نسيمها العليل”(1). 
كما تكثر البساتين بمدينة “واسط” و “البصرة” وغيرها من المدن وكأنّ ابن بطّوطة من عاشقي الإخضرار إذ يعدد هده البساتين والجنان كلّما دخل مدينة أو غادرها .
مع الموقع والماء تأتي أهميّة الهواء الذي يمثّل أحد عناصر الحياة الأساسيّة والذي لم يفت ابن بطّوطة إلاّ ذكره والوقوف عند إعطائه أهمّية قصوى لإرتباطه العضوي بالمواقع فهذه البساتين تقدّم لنا إلى جانب ثمارها، النّسيم العليل ليتقاسم كلّ المدن والقرى الحرّ والبرد فهذه “عدن” شديدة الحر مع البحرين، ومدينة”أكك” شديدة البرد ليربط بين الهواء والماء في مثال مدينة “صنعاء” إذ يقول عنها “معتدلة الهواء وطيّبة الماء”(2) لأهمّيّتها مع بعضهما.
ب) العمارة ومعالمها:
بعد إن اختار الإنسان موقعه ذي الحصانة، الهواء الطّلق والماء الزّلال تأتي تجارب الأمم والحضارات لتقدّم للإنسانيّة إبداعاتها المتميّزة في عالم العمارة وفنها فتعددت القصور والمقابر التي خلّفها الفراعنة والصّينيّون القدامى والمعابد التي يتباهى بتشييدها أباطرة تلك العصور أمام النّاس وآلهتهم واللاحق من ملوك الأمم الغابرة يضيف على السّابق منهم حتّى نلمح كلّ هذا بعد فترة من الزّمن امتدّت قرونا .
والمدينة رقعة من الأرض ترتسم فوقها مصالح مشتركة ويحكمها مصير واحد ومجموعة اتّفقت على الإستيطان فوق هذه الرّقعة وقد أمدّتنا الدّراسات الأركيولوجيّة برسم المدن القديمة، بطرقاتها ومؤسساتها السّياسيّة، الكهنونيّة والحمّامات والدّكاكين وترجع هذه الدّراسات نشأة المدن إلى الألف السّابع قبل الميلاد، وكيف أن الشّوارع ظاهرة مصريّة قديمة والمدينة الرّومانيّة وتنظيمها المحكم بساحتها العموميّة ومعابدها.
وتأخذ المدن أشكالا هندسيّا فهذه مدينة “الكفا” مستطيلة وأخرى عظيمة وثالثتهم صغيرة ومن شوارعها فسيحة ومتّسعة.
أمّا عن معالم هذه المدن وشواهدها المعماريّة فقد عدّد منها ابن بطّوطة في رحلته الشّهيرة العديد منها مثل الأهرامات بمصر التي قال عنها “بناء بالحجر الصّلد المنحوت، متناهي السّموّ، مستدير، متّسع الأسفل، ضيّق الأعلى كالشّكل المخروط ولا أبواب لها ولا تعلم كيفيّة بنائها”(3). ومقابر فراعنتها ونقوشها وكتابتهم ومسلاّتها الشّهيرة بالإسكندريّة أمّا دمشق “جنّة المشرق” فإلى جانب بساتينها تحدّث عن كنيستها وكيف تحوّلت إلى جامع وقبورها الكثيرة، سور أنطاكيّة، القلاع، كنيسة “أيا صوفيا” “وهي من أعظم كنائس الرّوم، عليها سور يطيف بها، فكأنّها مدينة، وأبوابها ثلاثة عشر بابا، ولها حرم نحو ميل، عليه باب كبير ولا يمنع أحد من دخوله(4)، الصّهاريج، الحصون الأبواب… 
كلّ هذه المعالم استعملت فيها عدّة تقنيّات ومنها الفسيفساء بالجامع الأموي بدمشق، الحجارة الضّخمة بالأهرامات وعند عمود السّواري بالإسكندريّة، الرّخام بكنيسة “أيا صوفيا” التي بها باب “مصفّح بصفائح الفضّة والذّهب وحلقتاه من الذّهب الخالص”(5).كما تبنى البيوت بالخشب، والآجر، الجص، الحجارة الحمراء وغيرها من المواد مع ما تحمله من صور ونقوش للحيوانات والأشكال الهندسيّة والنّباتيّة المتنوّعة.
ج-خصائص المدن الحضاريّة: 
إنّ العمارة المصاحبة للعمران عادة ما تمتاز و تستقي تميّزها بالعمران وتنوّعه في كلّ المجالات لكن قبل ولوج هذه الخصائص التي تلامس مجالات الإبداع هذه لابدّ من الوقوف عند إشكاليّة مهمّة هي تسمية المدن فقد تحدّث فيها باحثون مختصّون وقد انتهى بهم الحديث إلى القول بتسمية المدن قبل بعثها تكريما لملك أو إمبراطور، تخريب المدينة وإحيائها بتسمية وبنايات جديدة وغيرها من التّحاليل .
أمّا في ما يخصّ ابن بطّوطة فقد ذكر عدّة أمثلة نذكر منها مدينة “حلب” وارتباطها بالنّبيّ إبراهيم ومدينة “المعرّة ” التي كانت تسمّى ذات القصور حتّى توفّى بها ابن النّعمان بن بشير الأنصاري فسمّيت بمعرّة النّعمان.
وعن معالمها القديمة وآثار الغابرين فيها جعلته ينعت المدن بالقدم فهذه مدينة ” أبيار” قديمة البناء، ” طبريّة ” كانت فيما مضى ” مدينة كبيرة ضخمة ولم يبق منها إلاّ رسوم تنبئ عن ضخامتها وعظم شأنها” أمّا اللاّذقيّة فهي مدينة عتيقة ، وهذه”المحلّة” حسنة الآثار وغيرها خراب إمّا بفعل الطّبيعة أو باليد البشريّة وسنورد هنا مثالين أوّلهما بمدينة “أخميم” بمصر ذات المقابر المنقوشة والكتابة التي لا تفهم أين أمر رجل يعرف بالخطيب بهدم هذه البرابى (المقابر)، وهذه أنطاكية يهدّم سورها الملك الظّاهر بعد فتحها وغيرهما من الأمثلة.
كان ابن بطّوطة في رحلته تستوقفه مجالس العلماء وفضلاء المشايخ وصلاحها وكان يزورهم ويستمع إليهم ويعلق حتّى على علماء المدن الذين توفّتهم المنيّة، فهذه مدينة المعرّة ينسب إليها الشّاعر أبو العلاء المعرّي، مدينة “طوس”بلد الإمام الغزالي ، مدينة “برغمة” ومن أهاليها أفلاطون الحكيم أمّا مدينة البصرة فقد اختصّ أهلها برياسة النّحو وفيها أصله وفرعه. كما هي مصر مدينة فرعون ذي الأوتاد إلى جانب العديد من الخصائص الأخرى التي نوردها ومنها أخلاق متساكني هذه المدن والأقاليم فمدينة “تعز” أهلها ذوو تجبّر وتكبّر وفظاظة عكس أهالي مدينة “حمص” لهم فضل وكرم وهذه “خوارزم” كثيرة السّكان ومن تختصّ بريح السّموم وبالفلفل وأخرى بالعنبر والفخّار وتعدد الصّناعات وإتقانها كمدن الصّين.
إنّ ابن بطّوطة وهو يعدد من خصائص المدن والقرى التي مرّ بها كان يستحضر إلى جانب البساتين والأنهار والأودية نظافة هذه المدن ومقياسه الأوّل تعدد الحمّامات بها ووصفها وإعجابه بها ثمّ شوارع هذه المدينة وأسواقها فيقول عن مدينة ظفار “وهي من أقذر الأسواق” عكس جزائر ذيبة المهل” وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار كما تمتاز هذه الشّوارع بأنّها واسعة وفسيحة.
إنّ هذه المعالم الحضاريّة هي ثمرة جهد وتعب من التّصور إلى الإنجاز، من الفكرة إلى التّشييد لكن لابد من التّرويح عن النّفس وقد أورد ابن بطّوطة رحلته مشهدا حضاريّا معبّرا عن نوع من التّقدّم الذي لامسته تلك المجتمعات ” وأهل دمشق لا يعملون يوم السّبت عملا إنّما يخرجون إلى المنتزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار بين البساتين النّظرة والمياه الجارية فيكونون بها يومهم إلى اللّيل”(6).
كما لم يفت ابن بطّوطة التّحدّث عن عادات وتقاليد أهالي هذه البقاع في علاقتهم بالكنائس وبالمقابر التي نقشت منذ الفراعنة عند حديثه عن مقابر مدينة أخميم أو مقابر الصّالحين والخلفاء والقبب المذهّبة والحرير والفضّة وأنواع الطّيب لتتنوّع مراسم الدّفن والتّأبين وغيرها من التّقاليد التي وقف عندها ابن بطّوطة مليّا .
إنّ المدينة عند ابن بطّوطة شاهد حضاري متميّز يأخذك معه إلى تصفّح تاريخها الحضاريّ والمعماري المتمثّل في بقايا آثارها أولا ثمّ موقعها وتميّزه بالبساتين والماء والهواء والأنهار على المستوى الطّبيعي أمّا مستواها الحضاري فهو موزّع بين علوم وفنون هذه المدن والأقاليم وعمارتها من قصور ودور ومقابر وحمّامات
الهوامــش :
1- رحلة ابن بطّوطة-دار الكتاب اللّبناني-دار الكتاب المصري(ص-61)
2- نفس الوثيقة (ص-167) 
3- نفس الوثيقة (ص-35)
4- نفس الوثيقة (ص-234)
5- نفس الوثيقة (ص-234)
6- نفس الوثيقة (ص-63)
_________
*كاتب من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *