*محمود جودة
خاص ( ثقافات )
ممطرٌ كان الجو، وكان شديد الحَلاوة، حيث المَطر الذي بلا برد أو رياح، كنتُ أشاهد أب يصطحب ابنته التي كانت في الصف الثاني الاعدادي إلى المدرسة، ومن ثم يذهب إلى عمله.
كانت ابنته تؤخر الخُطى وتفتعل مع منديلها المَشاكل كي تدير رأسها وترى حبيبها الذي يمشي خلفها بحذرٍ يُقدم خطوة، ويرجع خطوتين، كي لا يسبقها.
الصُدفة وحدها جعلتني أتبعهما طيلة فصل دراسي كامل، حيث كان ذلك الطريق هو طريقي إلى المدرسة، وكُنت أشاهدهما وأشهد على حبهما دون أن يشعرا بوجودي خلفهم.
كنت أعمل حينها في مدرسة اعدادية كمرشد نفسي وكان هذا الطالب مقيد في نفس المدرسة، وكان يأتي لي في أوقات الفراغ، يُجالسني ويسألني الكثير من الأسئلة عن المخيم و الأغاني والفن والحب. سألني ذات مرّة: يا استاز حبيت قبل هيك.
_ آه حبيبت.
حرّك الحبيب رأسه في فرح وفرك كفا يديه ببعضهما وقال: يا حبيب الله.
حينها طلب مني أن أكتب له رسالة حبٍ لحبيبته .. وافقت وكتبت له الكثير من الرسائل، دون أن أٌلمِّح له بشيء، ويأخذها منّي وهو يردد: عليَّ الضَمان إنتا أحسن استاز في المدرسة ..
مرّة قالها لي وهو يمشي للخلف، وما إن لفّ وجهه ليخرج من باب الغرفة، حتى ارتطم وجهه بالباب، فقبّل الباب وقال: برضو هاض الباب أحسن باب في المدرسة، وراح يجري..
يا للحب ماذا يفعل بالقلوب ..
في أحد الأيام كانت الحبيبة ترتدي “جاكيت جينز” بني اللون، حتى بدى رأسها المُغطى بالمنديل الأبيض كأنه زهرة فلٍ مغروسة في التربة، وعندما تشاكس منديها لتنظر إلى الخلف، كانت رائحة الفل تملأ الشارع، كتبت هذا الكلام له في الرسالة، فتحولت عيناه التي كانتا تنظران إلى الورقة التي أكتب عليها إلى وجهي وقال: إنتا شو عرفك يا استاز إنها كانت لابسة جاكيت بُني؟!
_ هربتُ من الاجابة بحجةٍ لا أذكرها، فلم أشأ اخباره بأنني أعرفها وأشاهدهما كل يوم في الصباح، خفتُ أن يخبرها أو يمتنع هو عن انتظارها فأفقد أنا هذا المشهد الجميل في الصباح _ كان منظرهم يبعث في قلبي سعادة لا توصف.
اليوم وبعد عامين رأيت ذلك الطالب المُهذب جدًا، يقف في طابور توزيع الأكل في مركز ايواء نازحي الحرب، ذهبت إليه ومازحته: هل ما زلت تبعث بالرسائل إلى حبيبتك؟!
_ لا حاجة للرسائل يا أستاز، حبيبتي ماتت في الحرب .. قالها وهو يبتسم، تلك الابتسامة التي كالبُكاء.
_________
*من المجموعة القصصية غزة اليتيمة