*زياد خداش
السيدةُ صاحبةُ القلب الكبير، الناعمةُ حدّ الصلابة، الطيبة والذكية، الصبورة والغضوبة، الهادئة حدّ الصخب، والصاخبة حد الحلم… جدائلها ياسمين، روحها روح كوكب، تعيش مع زوج عجوز قاسٍ، فاحش الوقاحة والثراء، تزوّجها على الرغم من إرادتها وإرادة أبيها بطرقه الدنيئة والابتزازية. السيدة من عائلة ذات تاريخ عريق، وجمال متميز، من رموز عائلتها: عبد الرحمن الكواكبي ويوسف العظمة وسلطان باشا الأطرش.
السيدة بدأت تتمرّد على الزوج، حين رأت الزوجات في العالم حولها يثرن ويغضبن، ويفتحن ثغرةً في الجدار، يتلصّصن منها على فكرة الحياة، لم لا تغضب، إذن، ولديها كل هذا الكم من الأسباب المقنعة للغضب؟ ما ينقصها فقط بعض شجاعة، فلتتشجع إذن، هيا يا سيدة، هيا.
حين رأى العجوز الزوجات، في كل مكان، يخرجن عن طريق فكرة البيت الدائم الذي بلا نوافذ، أحكم إغلاق الباب بباب آخر، والبيت ببيت آخر، صار بيتها داخل بيت، غالى المعتوه في رقابته وغيرته وطريقته الفظة في التقبيل. ذات ظهيرة، وعلى إيقاع غضب زوجة مجاورة، وأنين ٍمهزومٍ لزوج عجوز آخر، سمعت السيدة نفسها تقول له: “سئمت من (قعدة) البيت، الذي بلا نوافذ. دلني على بيت واحد في العالم بلا نوافذ، أنا إنسانة، ومن حقي أن أتنفس، وأرى العالم، وأحتك بالبشر، وأمشي في الشوارع، وأبتسم للغيوم”. “أخاف عليك من تحرشات الأغراب الوسيمين، وإغواء لغتهم السحرية وأفكارهم الهدامة التي لا تتناسب مع أفكار بيتنا، وعائلتنا” قال لها.
“من حقي أن أخرج من البيت، وأتسوق وحدي، وأربي أولادي بطريقتي، وألبس ما أحب من ملابس، وأقرأ ما رغبت من كتب”، صرخت في وجهه.
جُن جنون الزوج الذي بدا متفاجئاً من تغيّر لهجة السيدة، وارتفاع صوتها أول مرة؛ هجم عليها، حطم مرآتها، رمى أقراطها من النافذة. أسال دم يدها الناعمة بسكين المطبخ، لكنه فكّر مبتسماً في طرق أخرى أكثر ذكاءً (حسب ما يظن) لإسكات غضبها أو شرائه، فاعتذر لها عن سنوات السجن السابقة، ووعدها بهدم البيت الثاني. عانقها بقوة، وانتزع من لعابه دموعاً، ورسم لها على الحائط نافذةً، قائلاً لها بطريقة مسرحية: “هاك نافذةً لتطلّي منها على الهواء يا حبيبتي”. ضحكت السيدة الناعمة، ضحكت وضحكت، حتى انقلبت على ظهرها، واستمرت في الصراخ: “لا بديل عن نوافذي الحقيقية”. احتار معها العجوز، فجرّب إغراءات أخرى، انطلق من فوره إلى المكتبة، واشترى لها روايات جديدة، لم يكن مسموحاً لها قراءتها، غير تلك المملة التي أعادت قراءتها آلاف المرات، ركلت الروايات بقدمها اليمنى. فتح لها فضائيات جديدة، كان محظوراً عليها مشاهدتها؛ فركلت التلفاز بقدمها اليسرى. اشترى لها فساتين فاخرةً، فمزقتها أمامه، واستمرت في الصراخ: نوافذي نوافذي.
في لحظة جنونٍ رائعة، اقتربت السيدة الغاضبة من أحد الجدران، ألصقت أذنها به، أصغت إلى صوت الحياة في الخارج. رأت نفسها تحضر فأساً، وتهوي به على جدار البيت الأول فالثاني، فاتحةً ثغرةً في الثاني، صانعةً منها نافذةً تطل على الهواء والبشر والشمس، لوّحت السيدة للمارة فرحةً ومصرّةً على العيش، وغاضبةً ومليئةً بالفضول الطبيعي الفطري.
هاج الزوج العجوز وماج، سقط منه طقم الأسنان، بينما كان يهم بصفعها. هربت السيدة من الثغرة، تركت الثغرة تأخذها إلى الشارع، لاحقها العجوز الذي بلا أسنان، حاملاً سكين المطبخ، تعاطف بعض المارة معها، وراحوا يدلونها على شوارع وأزقة للنجاة، بعضهم سكت وهرب، أو بلع غضبه، تفادياً لانتقام العجوز الثري، حتى الآن، ما زال العجوز يطارد السيدة الناعمة التي لم تعد خائفةً، لم يعد الخوف سيد البيت والأحلام، فكل شيء يتغيّر حولها، كل شيء يتغيّر. عليها، إذن، أن تتغير، وتعلن الغضب وتسترد كرامتها، وتعود جديرةً بشموس تاريخها: الكواكبي والعظمة والأطرش، هل قلت لكم اسم هذه السيدة؟ إذا لم أقل، فلأقله، اسمه: سورية.
________
*العربي الجديد