خضير اللامي
خاص ( ثقافات )
القصص القصيرة جدا، تنماز عناصرها البنيوية بكثافة اللغة وجزالة المعنى، واختزال السرد، أي استخدام الأسلوب البرقي، والابتعاد عن الإسهاب في تفاصيل سرد الحدث والشخصية، وانتقاء المفردة الموحية، المشحونة بالمعنى، وما تحمله من رموز وإيماءات مكثفة، وتنتهي بما يسمى الضربة الفنية أو الصدمة بمعنى آخر، والبعض يطلق عليها فن الومضة المتقنة، تدفع المتلقي إلى التوقف عندها، والتأمّل في ما تضمر هذه الومضة من معنى أو مقصد، وإنْ اخفق في الوصول إلى ما يريد كاتب هذا الجنس الادبي إيصاله، أو ما يجترح هو قصدا لها عاد لقراءتها مرة أخرى أو غادرها.. ونستطيع أنْ نقول إنَّ أفضل تعبير عَنْ تعريف القصة القصيرة جدا هو قول النفري: كلما اتسعت الرؤية ضاقتِ العبارة.” وهذا القول يُضْفي على المتن السردي معنى وشكلا إيّاه..
ومَنْ يتابع فن القصة القصيرة جدا يرى أنه يعبِّر عن سماتِ عصره وضغوطاته الحادة على الانسان المأزوم، مع أنًّ القصة القصيرة والرواية بوصفهما فنيَن سرديِّين عبَّرا وما زالا يعبِّران عن تطورات العصر المتلاحقة، بيد أنّ القصة القصيرة جدا انفردت عن ذَيْنك الجنسْيَن بملاحقة تطورات العصر المتسارعة ومتطلباته التعبيرية، بوصفها فنا مستقلا لم يخرج من رحم القصة القصيرة أو الرواية لملاحقة انفاس عصرنا. وإنْ كانت تُعَدّ جنسا أدبيا في مجالها.
وثمة تشابه بينها وبين اللوحة الفنية، فطالما وقفنا طويلا أمام اللوحة التشكيلية نتأمَّل ظلالها، وألوانها، وأبعادها الفنية، وكتلها الداكنة، وبهاءها، وقتامتها، وحتى زمانها، وما ترمز إليه من فضاءات. كل هذا يخلق انعكاسا شعوريا ذاتيا داخل المتلقي، وعلى وفق تفاعل تأمِّل اللوحة.. وهكذا هو فن القصة القصيرة جدا، لدى حنون مجيد، فهو يدعونا إلى تأمِّل قصصه القصيرة جدا والغورِ في إيحاءاتها، التي برع فيها، وتمرَّس في كتابتها، ليخلق ديناميكية الحركة الداخلية لبنائها. فضلا عن دربته في الأجناس الأدبية الأخرى، قصة قصيرة، رواية، مسرح، كتابة الأطفال.. الخ، التي منحته إلماما بفن القصة القصيرة جدا.. ونرى أيضا، لدى حنون مجيد هذا الفن القصصي القصير جدا، فنّا قائما بذاته، يعتمد الشعرية المكثفة، وتفعيل الجملة، وعمق التناول، ولا تنير لمعات ومضاته وضرباته خاصة، إلا بعد تأمِّل عميق لما يقصده في هذا النوع من الجنس الإبداعي؛ وبمعنى آخر، أن هذا التأمل وهذه الضربات والومضات، يتركها إلى قارئ نوعي ألمعي مفترض..
والقصة القصيرة جدا، لا أحد يعطيها قيمتها إلاْ مَنْ شغف بكتابتها وتمرس في تناولها وما يملكه من تجارب تراكمية ثقافية وفنية. وحين يكمل مؤلفها وضوءه قبل الصلاة تهبط عليه كما وحي، إذ يقول حنون مجيد في هذا الصدد في مقابلة أجراها معه عبد الجبار العتابي ونشرت في موقع إيلاف:
” ربما تقترب من اللحظة العابرة، أو من اللحظة التي تصادفني، وأنا في السيارة، وأنا في الشارع، وأنا في بيتي، ولكن هذا لا ينفي التفكير العميق والتمهل في كتابتها أو موضوعها..” وهذا لا يتأتى إلا بعد تراكم ثقافي وأدبي لمن يمارس كتابتها..”.
وحنون مجيد كما نعرفه، متعدد المواهب والرؤى لمختلف أجناس الأدب، وبهذا فهو لا يندرج ضمن الذين يسخرون من هذا الجنس الأدبي أو يقللون من أهميته، وإنما العكس صحيح، فهو من المدافعين عن هذا الفن الحديث وتثبيت أسسه وأبعاد بناه الفنية..
وإذ يستسهل البعض هذا الفن القصصي القصير جدا، أو يستهين به، ويُعد مَنْ يدخل عباب بحره من الذين لم يمارسوا كتابة الرواية أو القصة القصيرة أو المسرحية مثلا فإنهم وإن كتبوا فيها، تجيء عباراتهم مهلهلة وفجة ولا تفضي إلى شكل فني لهذا الفن الجميل. وبالطبع، فإن كل فن جديد لا بد أن يلقى معارضة شديدة، قد تستمر وقتا طويلا أو قصيرا كي يثبت ذلك الفن جدارته ويصبح فنا متداولا راسخا له أصوله وامتداداته الفنية..
ويعرٍّف القاص حنون مجيد القصة القصيرة جدا: إن الفرق بينها وبين القصة القصيرة، هو أننا نصل إلى الهدف البعيد بأقل الكلمات وأقصر الطرقات.. وكلامه هذا مجتزأ من إحدى قصصه القصيرة جدا عنوانها: سؤال القاص.
وعموما، فإنّْ القصة القصيرة جدا، هي لحظات مكثفة للغاية، في خاطر القاص تكتب بلحظات مكثفة جدا أيضا، لتعبر عن وجهة نظرالإنسان في الحياة كما نرى في الكثير من قصص حنون مجيد القصيرة جدا. ليجعل قارئه يعيش تلك اللحظات المكثفة حتى يصل به إلى حالات الوجد والشعرية والسمو، كما في كثير من قصصه تلك.
الأجر
كان يهفو إليها فتمنعه، لذا عدّ نفسه صائماً عمره، ولما جاء شهر رمضان وصامت كتب إليها؛ أعرف أنّ صيامك أتم لكنّ صيامي أشق فخبريني، أليس على قدر المشقة يحسب الأجر؟
ويكتب حنون مجيد قصصه القصيرة جدا هذه، كحكيم صيني أو بوذي، وقد بث أفكاره ورؤاه ومواقفه إزاء العالم والحياة والإنسان وحتى الطبيعة، على جسد القصص القصيرة جدا في هذه المجموعة، مجموعة الخيانة العظمى، فقصصه مشحونة بالحكم، والأخلاق، والقيم الإنسانية، والإيثار بالنفس، وعمق التجربة الذاتية، والمثال في الحياة.. ومن خصوصية هذه المضامين وسردية القصة القصيرة جدا فإننا نتوقف كثيرا عند مضامينها ولغتها الشفيفة، وعمق معناها، ناهيك عن المتعة الفنية في التناول:
القطار
في صباح الغابة يبدأ ضجيج لا تفهم منه سوى أنه الاستعداد ليوم عمل جديد.. عند الظهر تصمت الغابة أو تكاد.. عند المساء يصمت فيها كل شيء.. تماماً كما هو الحال عند البشر، وتماماً كذلك كما هي مراحل الطفولة والكهولة والمشيب، حيث ينتهي كل شيء لتبدأ الحياة من جديد.
وقد وفر لنا حنون مجيد فرصة في أن ننظر للإطار الفني والمضمون الجميل لفن القصص القصيرة جداهذا كما لوأننا نتملىّ جسد امراة فائقة الجمال وصافية الروح..
ولا أبالغ إذا قلت هنا، إن حنون مجيد في الكثير من قصصه القصيرة يرتقي إلى مصاف كتاب هذا الفن السردي القصير جدا في العالم.. أمثال الكاتبة الأميركية ليديا ديفيز، وناتالي ساروت في قصصها انفعالات في سبعينيات القرن الماضي..
الرقص بالكلمات
الرجل العجوز بنظارتيه الحلزونيتين وهو يقرأ في رواية أجنبية، يشعر دبيباً يسري في دمه وثمة رقص داخلي يهز أعطافه، ولكي يسترجع بعض هدوئه فلا يرقص بين زوجه وأولاده فيتهم بالجنون، أغلق كتابه وبدأ يلعن أولئك الكتّاب فهم يستنهضون الرقص حتى بالكلمات.
وكان من رواد هذا السرد الأدبي، خالد حبيب الراوي، وجمعة اللامي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وجليل القيسي، وحسين رشيد، وبهنام بردى. ولقصر القصة القصيرة جدا يعتقد الكثير أنها لا تُعد جنسا أدبيا وإنما هي طرفة أو مزحة ليس إلا؛ بينا يؤكد كتُابها ونقادها وقراؤها أعلاه غير هذا، وتعد من الفنون الصعبة، ولا يلدها السارد إلا بعد مخاض عسير عاناه.
وأختم كلامي هذا، عن الذين يسخرون من هذا الفن الجميل ويعدونه مزحة أو طرفة، ماذا يقولون عن كتاب كبار كتبوها بكلمات قصيرة جدا جدا، مثل آرنست همنغواي الذي كتب قصة قصيرة جدا جدا تتكون من ست أو سبع كلمات لا غير وعدها من أفضل أعماله قاطبة مثل قصة، للبيع: حذاء طفل، لم يلبسه أحد من قبل.
والكاتبة الأميركية الشهيرة ليديا ديفز في قصتها:
تعاون مع ذبابة:
أنا وضعت الكلمة على الصفحة،
وهي وضعت الفارزة.
وقد لاحظت ان حنون مجيد قد فعل مثل هذا في مجموعته الخيانة العظمى وغيرها كثيرا، مثل قصة: “إضراب” التي تتكون من تسع كلمات فحسب.
بدأ لا يأكل الطعام لأن الطعام بدأ يأكل أسنانه!