*محمد بكر البوجي
خاص ( ثقافات )
في منتصف إبريل من عام رحيله رن هاتف المنزل ، وإذا بالكاتب إميل حبيبي ، دعوته لتناول طعام الغداء عندي في البيت ، كان لتوه قد وصل من حيفا، ذهبت إلى الفندق وصحبته إلى البيت ، كان بيتي متواضعاً وكنت في حالة بناء بيت جديد ، جلس على فراش أرضي ، وسأل زوجتي عن كيفية عمل المفتول مشيراً بيديه إلى حركة الفتل ، يبدو أنه قد رأى في القرى العربية مثل هذه الحركة ، أخبرته أنها المرة الأولى التي تصنع بها المفتول وقد تعلمت هي بناءً على طلبي عند أختها .
لم يكن أبو سلام بصحة جيدة ، أخبرني مرافقه الشخصي أنه يفقد الإحساس بالجوع والشبع ويفقد الكثير من أدوات الإحساس الجسدية ، أكل كثيراً إلى أن اضطر مرافقه أن يرفع الطبق من أمامه ، فقال أميل : خلاص بكفي ، ثم وضعنا طبق حلويات ساخنة فأكل وازداد في الأكل ، فرفع المرافق الطبق من أمامه ، أعرف أنه يصارع المرض وأنه يعاني . ونحن في انتظار الطعام دار بيننا حوارٌ طويل في كثيرٍ من القضايا وكان أجوبته غير متوقعة بالنسبة لي . على سبيل المثال قال : أنا ضد التطبيع ، كيف وأنت الداعي له ، قال : الإسرائيليون ما بستاهلوا نطبع معهم ، خلاص ، أنا منذ فترة بسيطة ضد التطبيع إلى أن يعطوا أبو عمار حقه . سألته عن الجائزة التي أخذها من الدولة ، فقال : أنا خسرت كثيراً من وراء هذه الجائزة ، أنا أخطأت ، خسرت القارئ في الوطن العربي ، وخسرت الدارسين والنقاد ، الآن أنا أندم على قبولها ، لكن الذين رشحوني لها هم أساتذة جامعات من كبار النقاد الإسرائيليين ، هم دعاة السلام ، هم يدعون إلى قيام دولة فلسطينية ، إنهم من اليسار الإسرائيلي المتفتح ، الذين جاءوا معنا لزيارة عرفات حين حضوره إلى غزة ، قلت : نعم ولنا صور معه ، قال : القضية أنني استلمتها من شامير شخصياً ، وكانت الانتفاضة الفلسطينية في غزة والضفة في عنفوانها ، كيف أصافح وأستلم جائزة من قاتل الأطفال ؟ أنا نادمٌ الآن ، حنان عشراوي هي التي أقنعتني بأهمية هذه الجائزة واعتبرتها اعترافا إسرائيليا بوجودي ووجود أدب فلسطيني على هذه الأرض ، لكن خسارتي أكبر . سألته عن الجديد لديه وهل هو يكتب الآن ، قال : خلاص ، آخر ما كتبت هي سرايا بنت الغول ، وقد أشرت فيها إلى أنها آخر ما سأكتب ، إنني الآن أودع الدنيا ، وقد أوصيت أن يدفنوني في حيفا ، وأن يكتبوا على قبري ( إميل شكري حبيبي ، باقٍ في حيفا ) . لكن أنت أصلاً من شفا عمر لماذا لا تدفن فيها ؟ حيفا هي حياتي ، أنا مولود فيها , هي مكان كل رواياتي ، سأخلد كل شبرٍ فيها ، وقد فعلت ذلك في رواياتي ، ليس هناك مكان معروف إلا وذكرته ووثقت اسمه وما طرأ عليه من تغيير جديد بعد النكبة ، حيفا هي حياتي وهي الرمز للباقين عام 48 قلت : وأيضاً حيفا رمز للقضية الفلسطينية مثل القدس ويافا ، قال : نعم . أزف الرحيل وأراد أن يغادر إلى مكان نزله ، على أن يلتقي غداً صباحاًً الزعيم عرفات ، وهو يعلم أنه اللقاء الأخير . طلب من ابني الكبير – بكر – وكان عمره عشر سنوات تقريباً ، قائلاً : تعال شد إيدي ، قلت : أنا ، قال : لا ، أريده هو ، إنه الجيل الجديد الذي يسندنا في المستقبل .
زار إميل حبيبي جامعة الأزهر في غزة أكثر من مرة وكانت لقاءاته جماهيرية يخطب في طلاب الجامعة ، وقد كان الطلاب خارج القاعة أكثر من داخلها ، والقاعة تتسع لألف شخص تقريباً ، في المرة الأولى اتصل بي وأخبرني أنه سيكون غداً العاشرة صباحاً في نقطة العبور إلى غزة ، وكان لقاءً حميماً معي فهي المرة الأولى التي أراه شخصياً . كتب في اليوم التالي في صحيفة القدس مقالاً بعنوان ( من يذهب إلى غزة .. ير ) معتزاً بشباب الجامعة وطالباتها حينما استمع إليهم شعراً . رحم الله أديبنا الشامخ أميل حبيبي الذي سيبقى نهراً معطاء في الرواية للأجيال القادمة ، وأعتقد أنه من الصعب حتى الآن أن أجد من يتجاوز إميل حبيبي في الفن الروائي في بلادنا فلسطين .
______
ناقد ومحاضر جامعي من غزة