*صالح العامري
1-حاء صاد
اضطلع أمين عام هيئة الأمم المتحدة السابق (حاء صاد) بالمهمة التي لم يجرؤ أحد من قبل على فعلها في قرية اللوز النائية، وهي قتل البراغيث السامّة والقضاء عليها في مكمنها الأصليّ. والحق يُقال أنّ حاء صاد لم تغوه هذه المهمة إلا لأنّ قرية اللوز تقع على حافة العالم، متخيلاً بعينيه الحالمتين إطلالته من ذرى تلك الحوافّ على النهايات والزوالات، وعلى الأزمنة التي تسيل روائحها وتتدفق موسيقاها، صاعدة إلى عنان السماء.
حدث، بدون أن أعرف أسباب ذلك، أنني كنتُ في المكتب العدليّ، بقرية اللوز، حين قدم حاء صاد إليها، برفقة اثنين من مساعديه. لم يكن مناسباً قط لأي واحد منا أن يتحدث عن أية ذكريات لنا في شوارع أو حانات مسقط، ولا أن نتصافح كما يفعل الأصدقاء القدامى بعد انقطاع وغيبة، ربما لأنه في مهمة عمل في المقام الأول والأخير، وربما لكي يبدو رسمياً في أعين من حوله، ولهذا فقد اكتفينا، أنا وحاء صاد، بتلك التحية الخاطفة التي يفعلها اليابانيون والكوريون سراعاً، دون أن تند أي ابتسامة أو ترمش عين أحدنا.
تصفح الكاتب العدليّ إضبارة الوكالة الأممية بتعيين حاء صاد في مهمته في قرية اللوز، مغمغماً بكلمات غير مفهومة، أدركتُ منها أنّ الورقة الزرقاء تحتاج إلى مزيد من التصديقات والأختام الضرورية جدا. حينها تدخلنا – أنا والمساعدان- لشرح مهمة الأمين العام، وإقناعه بأن التصديقات مستوفية ومكتملة، راجين إيّاه أن يطلع ويدقق على الأختام المضروبة خلف تلك الورقة.
اعتقدنا جميعاً أنّ الكاتب العدلي قد رضي بما قلناه، لكنه فاجأنا بالسؤال عن صاحب العلاقة، وهنا أخرج حاء صاد صورة فوتوغرافية، بسطها على طاولة الكاتب العدليّ، تظهره واقفاً بوقار وهندام أنيق بين كوفي عنان وبان كي مون، مع الخلفية الزرقاء لعلم الأمم المتحدة بنقوشها البيضاء، المحاطة بغصني الزيتون.
حدّق الكاتب العدليّ مليّاً في الصورة، ثم غيّر نظره مباشرة إلى وجه حاء صاد، وتهللت أساريره، غير أن وجهه بقي كعلامة استفهام حائرة، طارحاً سؤاله المفاجيء: ومتى كنتَ يا سيدي أميناً عاماً للمنظمة الدولية؟. حاولنا باستماتة أن نرد على سؤاله لكي لا تضيع المهمة، وأنّ تشفع الإضبارة والأختام لإنقاذها، وبالتالي إنقاذ قرية اللوز، مكمن أسوأ الشرور، ثم إنقاذ العالم بأكمله من تلك البراغيث الدموية السامة. أما حاء صاد الذي كان صامتاً حتى تلك اللحظة فقد نطق أخيراً مُدلياً بما يشبه الاعتراف، لكنّه الاعتراف الحازم الواثق من نفسه، لقد باح بما يشبه الهمس أمام حضرة الكاتب العدلي بأنّه لم يشغل منصب الأمين العام إلا لعشرة أيام فقط بين فترتي كوفي عنان وبان كي مون، وقد أطيح به في لعبة أممية قذرة أملتها الخصومات السياسية والمنازعات المتعلقة بتضارب المصالح، وبابتسامة واثقة طفق يؤكد بأنه لا يزال رجلاً صالحاً للاضطلاع بالمهام العسيرة المحفوفة بالمخاطر، وأن أيامه الأممية العشر لم تمض سدى، وأنه في كامل أهبته واستعداده للانطلاق في تلكم المهمة.
لم تكد تنساب هذه الكلمات في أذني الكاتب العدلي وفي آذاننا، حتى سمعنا خبطة الختم الرسميّ وهو يهوي بقوة على الورقة الأممية، بينما أطلق حاء صاد تحيته الإيمائية العجلى دون أن يصافح أحداً منا، أنا والكاتب العدليّ، منطلقاً مع مساعديه إلى قرية اللوز للقضاء على الأشرار.
أما أنا فقد بقيتُ وحيداً على قارعة الحلم، ولهذا عليّ أن أتدبّر أمر ليلتي التي تتمدر من العطش.
2-أمي في «السحلية الكسول»
لم أكن أتوقع في طفولتي أن تركض أمّي إليّ، بعد سقوطي المدمّى خلف السور، حاملة القطن والميكروكروم لتداوي رأسي بعد أن فلعتني بحصاتها الطائرة التي أرسلتها من يدها المدربة على نسج الخوص وإيلاج الخيط بدقة في إبرة الخياطة والتقاط الرطب والتمر الهامد، والتي باغتتني في اللحيظة التي كاد رأسي أن يختفي عنها تماماً وراء السور في الحلة الجنوبية. أما آخر ما توقعته منها حقاً فأن تأتي إليّ هذا المساء، بعد كل تلك السنين، وأن تعطف عليّ وتحنو على عطشي، وأن تسقيني شراباً بارداً منعشاً لم أتذوق مثله من قبل. لقد حصل ذلك بالطريقة الآتية:
كنتُ كالمعتاد قاعياً على كاونتر حانة «السحلية الكسول» أنتظر كأساً يبدو أنه قد تأخر كثيراً بسبب زحمة المرتادين، وإذا بي أرى أمي في وسط الحانة، متلفعة بالليسو الأسود، حاملة في يدها قدحاً كبيراً، ماضية به إلى أسفل صنبور نوعي المفضل من الجعة، ضاغطة على منفذ الصبّ، لكي تعبيء بطريقة احترافية ذلك القدح، الذي يتحول بين يديها إلى شيء يشبه الإوزة الصفراء المتقدة التي يتطاير منها الذهب.
دون أية ابتسامة، ودون أدنى اهتمام بي، هبط كأسها أمامي، والرغوة المقدسة ساجدة تصلي في أعاليه، بينما الفقاقيع ترتفع حبات مسبحتها اللؤلؤية في أحشاء الكأس، صاعدة من قعره إلى سمائه، ومعاودة الكرة من جديد من القاع إلى الذرى لكي يبتهل الكأس ولكي تصدع الجعة الصفراء بنشيدها الهيوليّ أمام الشفتين، ثم بينهما، ثم فيهما، ثم في اللسان، ثم في كل جوانب الحلق، ثم في اللهاة، ثم في الحنجرة والمريء الممتنّين الولوعين، ثم في سائر الجسد الجذل الذي يردد أكثر من شكراً وأكثر من مرحى أيها الحنان.
ما إن أنجزت الأمّ مهمتها البطولية لابنها، حتى انسلت خارجة من وسط الدائرة التي يلج إليها السقاة وحدهم دون غيرهم، مختفية عن الأنظار، لولا أنني سمعتُ هرجاً ومرجاً في مكان آخر بعيد، يبدو من خلاله أن رجال أمن الفندق، قد حاولوا القبض على امرأة غريبة تسللتْ إلى «السحلية الكسول» بطريقة غير قانونية، وصبّت كأساً لشخص معيّن بالذات ثم رحلت.
كنتُ في مزاج رائق حينذاك، ولم أشأ أن أخبرهم بأيّ شيء يتعلق بأنها أمّي وبهديتها الفاخرة، لكنني أتذكر أنني كنتُ أضحك وأنا أتمتم لشخص عابر، كان جالساً إلى جواري، بأن ذلك مجرد حلم، فلماذا يريدون القبض على تلك المرأة التي لم تفعل شيئاً؟!…
وأعتقد أيضاً، بعد أن تحولتُ إلى سنجاب ليليّ أو باندا صينيّ، أنني أسررتُ إلى رفيقي في آخر الليل، بأن الأشجار وحدها بيتُ الكائن!.
3-استلقاء تحت شجرة عظيمة
رأيتها هناك، تسرّح شَعر الليل، تبتسم كأنّها معنى الحياة ولا يوجد ثمة معنى آخر إلاها، كأّنها وجه الجنة، كأنّها قلب الطائر، كأنّها بجناحين قد خفضتهما لكي تتقوى الجذور ويترسّخ الجذع المغوي.
زرتها، وأنا أشبه طيفاً أو شبحاً، أو عصفوراً ممتقعاً ألقت به الدمعة جهة الأشجار. فتحت لي أبوابها السبعين، ضمتني إلى حضنها. أحسستُني- وأنا المغبر الكالح- بأنني نظيف في عينيها، أحسستني مثلها مشذباً ومقلماً هناك في وسامتها وطهرها الغامرين.
لم تطلب مني أن أبوح أو أتكلم، لم توسوس الريبة في داخلها فتظنني حطاباً ينوي قطع الأغصان ويفكّر في الأخشاب. كانت نبيلة جداً كأنّها عروس النهر، صادقة جداً كأنها برد يتجاوز الأغطية، لطيفة جداً كأنّها أمّ العالم.
قلتُ في نفسي: يا إلهي، هذه الشجرة ذاتها، لذاتها، في ذاتها. ليست شبهها، ليست مرآتها، ليست ظلالها. إنها تقع عليها، تقع فيها، في قيعانها، في مائها وحدها، في هوائها وحده، في حيزها الذي هو كل الفضاء، في فضائها الذي هو كل حيّز. وأظن أنها لم تغرسها يدٌ، لأنّها طلعٌ مُسكِرٌ جارفٌ سافر، تكوّر في رحمِهِ، حَبُلَ، أقام صرخته وعواءه النائي هنا.
قلتُ: هذه الشجرة هي بؤرتها، هي قيامتها. هي كلّها، هي جزؤها. هي طائرها، نومها، نسيمها المنعش، سكونها العميم، دورتها في كل الأنحاء.
وأنا أستغرق في حضنها الحلميّ، كنتُ أقول ممتناً: في رأسها يدور كل شيء، في قبتها المبقعة بالنور والظلام يقدّم الكونُ ثلمَه النزق، حريته المصابة، نزفه المديد، عمره الغائر، فتنته المشجرة، جادتّه الرحبة، شبكة علاقاته البسيطة المعقدة، أحلامه التي تتحدّر غزلاناً سيّالة في الهواء، رؤاه المعمّقة، خيالاته الخصبة، هذياناته الرشيقة.
وكدتُ أصرخ في داخلي، وعيناي تغرورقان بالدموع في هذا الليل: هذه ليست شجرة، بل هي مركز الكون، فرعها الرجراج: هو ساعة الكون الرملية، جذعها: النحيب الثخين للكون على خد المطلق.
وكنتُ أهذي أيضا: تعلمنا الشجرة أن نناضل المحتلين، لأنّ الأحجار الصغيرة التي نطلقها مثبتة في مقاليعها. تعلمنا الشجرة أن نهزها فلا نجوع، وأن نرقص وإيّاها في العراء فلا نيأس، وأن ننام تحت خيمتها الحُرة فلا نتشرد، وأن نسكر وإياها في غرام اللحظة العارمة. تعلمنا الشجرة أيضاً أن نشنق أنفسنا بحبل مربوط في غصن من غصونها حين لا شيء في هذا العالم إلا الحنان المهلك والحدّ الذي يحدثنا به البرق.
_______
*جريدة عُمان