«بوكر» لجنة التحكيم


*عبده وازن


ليست جائزة «البوكر» العربية سوى جائزة لجنة تحكيم. اللجنة هي التي تختار وتقرر وتعدل أو تنحاز… هذا الانطباع خرجت به بُعيد مشاركتي أخيراً في لجنة تحكيم الجائزة في دورتها الأخيرة والتي قطفها الروائي الفلسطيني ربعي المدهون عن روايته «مصائر». كان عمل لجنة التحكيم مستقلاً عن هيئة الجائزة كل الاستقلال، حراً ومقصوراً على النقاش بين أعضائها. لم يتدخل أحد من الهيئة بتاتاً، حتّى تلميحاً. اللجنة فرزت الروايات المئة والتسع والخمسين واللجنة اختارت اللائحة الطويلة ثم القصيرة ثم الرواية الفائزة. هذا الأمر يجب الاعتراف به جهاراً. ولم يكن حضور سكرتيرة الجائزة فلور مونتانارو، البريطانية التي تجيد العربية بطلاقة، سوى حضور تنظيمي أو «تقني»، كانت بمثابة الشاهد الصامت، الشديد اللطافة، في جلسات التحكيم نفسها، لا تبدي رأياً في الروايات ولا تشارك في النقاش، بل كانت تؤكد لنا أن لا عوائق أمامنا، أياً تكن.
نزاهة الجائزة لم تكن لتتضح لي لو لم أشارك في لجنة التحكيم. وهذه المشاركة بددت كل الإشاعات والتكهنات التي طالما أخذ بها صحافيون وروّجوها وحكموا من خلالها على الجائزة. وكنت أنا، واحداً من الصحافيين الذين شككوا في هذه النزاهة، والسبب هو فوز أسماء ما كانت تستحق الفوز، في نظري، وسقوط أسماء كبيرة لم يكن سقوطها ليُصدق. وبدا أن بضعة أسماء سقطت في «امتحان» الجائزة هي أهم من أسماء كثيرة فازت. وهذا ما كان يثير حفيظة الصحافيين. وقد أخذ عليّ بضعة منهم مشاركتي أخيراً في لجنة التحكيم بعد مقالين أو ثلاثة كتبتها ضد «البوكر». ولعل ما فات هؤلاء أن النقد حق من حقوق الكاتب أو الصحافي، وقد يكون واجباً في أحيان، ولكن ينبغي ألا يستحيل موقفاً جاهزاً وثابتاً إزاء الجائزة. وأصلاً كان حافزي على النقد هو إسقاط روايات كان معيباً إسقاطها. ولا بد للناقد من أن يتأثر إزاء هذا «الإسقاط» بما يدور حوله من أخبار أو إشاعات. ومنها على سبيل المثل: هذه الرواية سقطت لأنها تحوي نقداً لأحد الأنظمة، تلك الرواية لم تستطع الجائزة تحمل عبء جرأتها الإروسية، وتلك فازت تبعاً لهوية صاحبها أو انتمائها الى الخليج أو المشرق أو المغرب… ومن التُهم غير الموضوعية أن إدارة الجائزة مارست ضغطًا لتفوز رواية خليجية إرضاء للجهة الممولة…
حظيت جائزة البوكر العربية بما لم تحظ به جائزة عربية أخرى، أعرق منها أو اقدم، وأغنى مادياً، من اهتمام وفضول ومتابعة. إنها الجائزة العربية الوحيدة التي خلقت «حالة» تعني الروائيين والناشرين والقراء، وبات موعد إعلانها في كافة مراحلها، حدثاً إعلامياً وأدبياً يُنتظر كل سنة. ليست قيمتها المادية هي المهمة، فمعظم الجوائز الأخرى تتخطاها مادياً وتفوقها أضعافاً. لكنّ مسألة المال لا تعني هنا الإعلام والقراء، بل ما يعنيهم قدرة الجائزة على صنع «نجوم» وعلى الترويج والشهرة، عربياً وحتى عالمياً. يكفي أن تحمل الرواية صفة فوزها بـ «البوكر» في ترجمتها الأجنبية، حتى تلفت الإعلام والقراء في العالم نظراً الى السمعة الحسنة التي تتمتع بها البوكر الأم. تملك «البوكر» سحراً معلناً يحل على الرواية الفائزة فيجعلها قادرة على الجذب. وهذا «السحر» الذي تملكه «البوكر» كان واحداً من حوافز ازدهار الرواية العربية في السنين الأخيرة. فبُعيد انطلاق الجائزة، ازدادت حماسة الروائيين واحتدم إقبالهم على الكتابة وشهدت الساحة بروز أسماء جديدة من بينها مواهب كبيرة. لكن هذا السحر ساهم أيضاً في جعل الكتابة الروائية حيزاً مشاعاً ومشرعاً أمام الجميع، فاختلطت الأسماء والأعمال اختلاطاً عشوائياً وراحت دور النشر تلفظ الروايات مثل أرغفة الخبز. ولكن لا بأس. ليس من السيئ بتاتاً أن تصبح الرواية فسحة اختبار مفتوحة أمام الجميع.
ليست الروايات الفائزة بـ «البوكر» فوق النقد ولا أصحابها. ولعل التنافس على الجائزة وحتى على القائمة القصيرة قد يتيح أمام النقاد والصحافيين أن يشاركوا في اختيار الأعمال التي يرتأونها أهلاً للفوز ولكن خارج المسابقة الرسمية. الجميع يحق لهم إبداء رأيهم في الروايات ومساجلة لجنة التحكيم في ما اختارت، وهذه إحدى ميزات البوكر. لقد فتحت فعلاً باب النقاش الروائي الذي تحتاج إليه الحركة الروائية الجديدة ولو بدا نقاشاً موسمياً ومرتبطاً بروايات فائزة وأخرى غير فائزة. وإنني أطمئن الصحافيين الذين أخذوا عليّ مشاركتي في لجنة التحكيم بصفتي واحداً من نقاد «البوكر»، بأنني سأظل أشارك في النقاش مبدياً رأياً في ما فاز من روايات وما لم يفز وكان يستحق الفوز بحسب رأيي. وهنا حقاً تكمن فرادة هذه الجائزة التي تحتاج إليها الرواية العربية.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *