د. شاكر عبد الحميد*
هناك قصص تروي عن أن الشاعر الفرنسي «بودلير» قد كتب ديوانه الشهير «أزهار الشر» تحت تأثير المخدرات خصوصاً الأفيون، وهناك شواهد كثيرة متواترة ايضا يذكرها «سنكلير» في كتابه عن «إدجار آلان بو» عن تلك الهلاوس والسلوكيات العنيفة، وفقدان الذاكرة، والأفكار والمشاعر العدمية، التي سيطرت على هذا الكاتب الأمريكي الشهير نتيجة لإسرافه في تعاطي المخدرات.
وفي كتابه «اعترافات آكل أفيون إنجليزي» يتحدث الكاتب «دي كوينسي» عن كيف أصبح عبداً للأفيون بحيث أصبح خاضعاً له كسلطة وحيدة في حياته، وقد أشار إلى أنه لم يلجأ إليه «بحثاً عن اللذة» ولكن «هروباً من الألم» وقد عرف عنه أنه كان يعاني آلاما شديدة في الوجه نتيجة حالة تصيب العصب المثلثي في الوجه ويقال إن آلامها الشديدة قد تدفع بعض المرضي ضعاف الإرادة إلى الانتحار. وعلى الرغم من أن «دي كوينسي» قد تحدث عن الأفيون باعتباره العلاج الناجح لكل آلام البشر، وأنه سر السعادة الذي اختلف حوله الفلاسفة، فإنه ذكر خفية أن مسرات هذا العقار قصيرة بينما أحزانه وآلامه كثيرة، وقد حدثت لهذا الكاتب حالات «كثيرة من فقدان الشعور بالزمن ومن القلق العميق والحزن والكآبة الجنائزية».
إضافة إلى الخمور والأفيون اعتمد «آرثر رامبو»، وكذلك «تيوفيل جوتييه» «الشاعر والروائي» على الحشيش، بل قاما أيضاً بتأسيس ما يسمي بـ»نادي الحشاشين» في منتصف القرن التاسع عشر وقد اعتقدا أنهما بتعاطيهما لهذا المخدر يمكنهما سماع أصوات الألوان، أي النغمات الخضراء والحمراء والصفراء، وفيما يشبه ما سمي بعد ذلك في النقد الأدبي بتراسل الحواس أو التأليفية (أو التركيبية) Synesthesia حيث تمتزج أكثر من حاسة في تكوين الصورة الشعرية، وكما حددها الشاعر بودلير نفسه في حديثه عن معرض للرسم في باريس عرف باسم صالون 1864 حين قال «أمام الظلال الزرقاء الكبيرة المباشرة تتابع حشود من نغمات الألوان البرتقالية، والزهور الواهنة التي تشبه الصدى البعيد الخافت للضوء.. ففي اللون هناك التناغم واللحن والمصاحبات الموسيقية، كذلك تحدث «جوتييه» عن تلك الحالة التي كان يشعر فيها بأنه قد تحلل من وجوده الجسدي فأصبح لا شيء «كنت غائباً ومتحرراً من ذاتي. من ذلك المراقب المزعج الذي يطاردنا في كل مكان، ولأول مرة في حياتي استطعت أن أكون تصوراً عن الملائكة والأرواح، متحرراً من ربقة الجسد».
وزعم الشاعر «آلان جينزبرج» أيضا أنه رغم عدم تفضيله لتعاطي الحشيش خلال كتابته للشعر فهو قد وجد أنه بعد أن دخن «الماريجوانا» ذات مرة شعر ولأول مرة أنه «يفهم ويتذوق لوحات بول كلي وسزان ورامبرانت. وأن هذه الإدراكات للمعني عندما يتم الوصول إليها تحت تأثير المخدر، تظل موجودة وحية أيضاً خلال حالات الوعي الطبيعي». لكنه أضاف أيضاً قوله «إن مثل هذه الخبرات ليست نادرة في حياة الإنسان وليست قاصرة على تعاطيه للمخدرات فالخبرات الخاصة المرتبطة بالحب والموت يمكن أن تبعث داخل المبدع خبرات أعمق من تلك التي تحدثها المخدرات» ومع ذلك فقد استمر جينزبرج يدافع عن الأهمية الممكنة للمخدرات خاصة الماريجوانا في الإبداع، ودلل على ذلك بأن العديد من الفنانين الأمريكيين والبريطانيين المعاصرين قد تعاطوها عدة سنوات. ولا يري جينزبرج أن المخدرات ضرورية للإبداع. لكنه يري أنهما – أي المخدرات والإبداع – ليسا أمرين متعارضين.
في رواية «الحالة صفر») الصادرة عن دار ميريت 2015 (يجسد عماد فؤاد على نحو فني بارع حالات متنوعة من مثل هذه الحالات، لكن «الحالة صفر» هي أيضا أشبه بمحاولة للاستكشاف والبحث عن الإنسان الحقيقي، الإنسان مجرد من الزيف والأقنعة والادعاء على نحو ما، الإنسان على سجيته وطبيعته ووعيه الحاد بذاته ووجوده.
والرواية أشبه أيضا على نحو ما برواية «مذكرات آكل أفيون» للكاتب «دي كوينسي» وأشبه أيضاً بدراسة وتحليل لردود الأفعال الجسمية والنفسية السيكوفسيولوجية لعمليات التعاطي مع مقارنة بين الحب والتعاطي والحب والصداقة والكتاب والطعان والتخيل وغير ذلك من الحالات. وهنا أيضا ولع بالكتابة والحب وعالم النبات، من النهاية للبداية ومن البداية للنهاية، حيث تكون «الروح مثل نبات: بذرة وساق وأوراق وزهرة، وذبول وسوس فاسد».
و»الحالة صفر» نوع من البحث عن أرض ثابتة، عن اليقين، عن الأمان، وفيها ايضا تصوير لحالات بشر غرباء في أرض غريبة ومحاولة كذلك للبحث عن الهدوء والاسترخاء والأمان، والبعد عن التوترات الداخلية التي لا تتوقف، وعن القلق الذي لا يهدأ، وأنا أعتقد أن غياب الأب، ضياعه، مجهوليته، وضياع الأم أيضاً في حالة ميشيل، وهي الشخصية المحورية الأخرى في الرواية، خاصة هو الذي جعلها تعيش هكذا في حالة بحث دائم عن الهدوء واليقين والانفصال عن عالم الكذب والخداع ولو أن ذلك يتم ويحدث من خلال المخدرات والجنس والحرية المطلقة المجنحة بلا حدود أو قيود، وكذلك كان حال الراوي، الذي لا نعرف اسمه، غريب في عالم غريب أيضاً، لكنه يشعر نحو عالمه هذا بألفة واضحة ومحبة ما عرف به ميشيل فيه، لكنه كذلك ضائع أيضاً على نحو ما يفتقر للوطن للثبات، للرسوخ في المعنى.
وهنا تجسيد أيضاً لحالات تغير الوعي والوجدان والسلوك، اضطراب الرؤية واختلال التوازن، العرق والعطش وفقدان الشعور بالألم، جزئية الرؤية وضبابيتها، الإثارة الجنسية، الضحك الهستيري، وحالات التوق والاحتياج الدائم «urge» للمخدر والاسترخاء والاستسلام والسقوط، الكلام الغامض والحروف المبتورة والتساند والاصطدام بالآخرين، تشوش الوعي وتحريفه، وتحول البشر إلى ما يشبه الأشباح والظلال وحالات فقدان الشعور بالواقع، واختلال الشعور بالأنا أو الشخصية.
تقول ميشيل «أكره المرايا، أكره الانعكاس الذي يتبدى لملامحي كلما تأملت أثر السنين على وجهي، تلك الأخاديد الصغيرة أسفل عيني والتي لا تكاد ترى، تجعلني أشعر بالاستسلام لفكرة أن ما مر لن يعود، وأنني ضيعت الكثير من السنوات فيما لا طائل من خلفه».
وفي الرواية ولعٌ أيضاً بتصوير حالات النشاط الخاصة بالحواس الخمس، وولع خاص لدي السارد الرئيسي بتصوير تأثيرات اللمس والتفاصيل الصغيرة، وولع خاص لدى ميشيل بالأشياء والبشر».. هكذا يتحدث الراوي عن نعمة التركيز فيقول: «الماريجوانا تتيح لي هذه النعمة، نعمة تعتيق الذكريات وترتيبها واحدة جوار الأخرى، كما يقول كما لو كانت كتباً أصفها على أرفف المكتبة، نعمة التركيز في الأحداث، في الشخصيات والأفكار.. من بين جميع المخدرات والكحوليات الماريجوانا هي الوحيدة التي تمنحني هذه النعمة، لذلك لم أكن أفهمك حين كنت تقفين أحياناً في صف أثر الحشيش وتتركينني وحيداً أرفع راية الماريجوانا إلى الأبد».
وفي الرواية ايضا وصف دقيق لحاله الراوي بعد الزوال التدريجي للمخدر «عادة في صباحات الأسبات من كل أسبوع، أستيقظ برأس ثقيل من أثر الصداع والإفراط في الكحول ليلة أمس تعودت هذه الحالة وألفتها».. ووصف دقيق ايضا وتصوير دقيق للأعراض الجسمية المصاحبة لانسحاب المخدر، «أرفع رأسي عن الوسادة، وأتقلب ناحية اليسار وأنا أشعر بتنميل خفيف في عضلات رقبتي، أكاد أحس بسريان الدم السريع في كل حركة في أوردتي، طقطقة فقرات الظهر، الفرقعات المتتابعة في عمودي الفقري التي أسترخي بعدها وأنا أشعر بتجدد غامض وغير محدد في دماغي، كانت وستظل الإشارة الأولى التي تعلن عن حالة الهدوء الصافي التي بدأ يستسلم لها جسدي».
خلال ذلك كله هناك تصوير لحالات تتابع الصور وتتابعها وجماليتها والذكريات والزمن الخاص بها: «الصورة ذاتها حين تتآكل وتصفر وتهترئ أطرافها كمن يحاول أن يمنع الزمن ترك بصماته على ذكرياته بأن يخبئ الحلو منها في أدراج سرية مبطنة بالقطيفة، الأسود المصفر والبني المحروق والرمادي الغامق والأبيض البيج تصنع هذا الإعجاز.. الذكريات في حد ذاتها لا تعني شيئاً لولا هذا الاصفرار المسود والأبيض المتسخ والبني المصفر والرمادي الباهت، العيون التي تنظر إلى العدسة الغامقة»، وهنا نتذكر فالتر بنيامين وحديثه عن الهالة أو القداسة التي تحيط بالصور، أما عماد فؤاد فيحدثنا هنا عن تلك الصور حين تتآكل تظل تحمل معها القداسة ذاتها التي تجعلنا في لحظات الحنين الآسر إلى الماضي نتذكر بابتسامة حالة ما كنا عليه، وعضة خفيفة من ناب الذكري على بطن شفتنا السفلي كفيلة بردنا إلى ما صرنا عليه.. المسافة كبيرة فعلاً بين هذه الابتسامة وتلك العضة، تشبه إلى حد بعيد المسافة بين مفهومينا عن القبلة.
في الرواية ولع كذلك برصد تلك «الخربشات التي خلفتها الأيام على الوجوه، تغير التفاصيل، ومحاولة إمساك لحظة البهجة الساكنة في عيني البنتين دون فائدة حقيقية»، مع تذكر دائم للماضي والأب وتلك العلاقات القديمة التي كانت موجودة في امسيات تلك الاسرة وصباحاتها ومساءاتها.
يتذكر الراوي صورة له مع ميشيل في المقهى المشمس، وهو يشرب قهوته الصباحية، وصورته وهي تعانقه وهي تقف أمام مرآتها تعدل شعرها، وهي عارية، ويقول «سأختار صوراً كثيرة كلها بالأبيض والأسود، وسأترك كل صور الكاميرا الديجيتال جانباً لأنها – بصورة ما – كاذبة».
هكذا تكون الصورة الفوتوغرافية بالأبيض والأسود صادقة، لأنها تحمل الزمن، غير قابلة للتجميل ولا تقنيات الفوتوشوب تحمل أكبر قدر من ثقل الذكريات، الطفولة واللحظات الحميمة، أما الديجيتال فكاذبة.
تقول ميشيل: «كامرأة لم أتاجر خلال حياتي التافهة بروحي، لم ألقها على العتبات، ولم أعرضها على الأرصفة، كرمتها كما كرمتني، ورفعت من عرشها عالياً حين جعلت من نفسي امرأة تتبع أنفها، العين والقلب يكذبان. العقل، واللمسة العفوية يكذبان، أما الأنف فلا، الرائحة، العبير الآسر لمعنى الجسد. الرحيق الأولي لكينونة أعضائنا، الرائحة هي الفطرة المعتقة الأخيرة التي سقطت في غفلة من إناء الروح، قبل أن ينفصل عن ثقل الجسد. وتقول ميشيل أيضاً: الحالة صفر هي الهدوء التام، الابتعاد عن أي ضجيج صوتي أو تأثير يأتيك من العالم الخارجي الاسترخاء وتمارين النفس – جعل العقل مشلولا».
في هذه الرواية يواجهنا أيضاً عالم الموت والتكرار، موت المشاعر وموت البشر، حالات انتحار أو موت البشر التائهين المخدرين «الأثر الوحيد الذي تتركه حالة التوهان اللطيف هذه هو شبح ابتسامة مجاملة تبقي مرسومة على وجوههم الميتة إلى الأبد» وكذلك استدعاء وتذكر وتصوير لموت السكارى والمخمورين «حيث تتداعي الوجوه والجمل وحركات الشفاه وتلويحات الأيدي وإشارات الأصابع كلها دفعة واحدة أمام عيني فأتنهد». وهنا ولع كذلك بتجميع المشاهد المتباعدة مثل آليات التكثيف والإزاحة والتفريق الموجودة في الحلم، والغريزة المنطلقة بلا حدود، ورحلات عبر بلاد العالم، الجبال والبراكين والصحاري والأزقة والمتاهات. وذكريات من القاهرة عن خلط الستيلا والبراندي والنبيذ وتعاطي الحشيش، وتساؤلات مثل: هل الحب وهم؟! هل الآخر وهم، هل الراوي وهم؟ هل ميشيل وهم؟ أين الحقيقة؟ لا توجد حقيقة، بل مجرد آثار وذكريات وبقايا وصور وأحزان، ومقارنة بين أحوال الحشيش والطعام، ألوانهما، صناعتهما، درجاتهما ومحاولات دائمة لرصد تأثيراتهما على الحواس والعقل والوجدان والسلوك، ورصد كذلك لتلك المحاولات المستميتة للهروب من العبث واللاجدوى من خلال الحب او التعاطي او الوجود مع الآخر أو التشبث بالسعادة ولمس الروح وكذلك تلمس واستكشاف وتأمل ولمس لذلك الجانب المعتم من الوجود أيضاً.
* القاهرة