شوقي بزيع
لم يكن القرار الذي اتخذته الهيئة العلمية ومجلس أمناء جائزة زايد للكتاب، بمنح جائزة شخصية العام الثقافية، في دورتها العاشرة للكاتب اللبناني بالفرنسية أمين معلوف، مجرد تكريم شخصي لواحد من ألمع الروائيين العرب والعالميين فحسب، بقدر ما هو تكريم للنموذج الإنساني والحضاري، الذي دعا صاحب «حدائق النور» إلى احتذائه في عالم اليوم، الذي أنهكته الصراعات الإثنية والطبقية والإيديولوجية والسياسية والاقتصادية. ومَنْ أجدر بالتكريم من أمين معلوف في هذا الزمن شبه العاقر الذي لا تتوالد فيه سوى العصبيات المغلقة على جاهليتها، وجماعات الإرهاب التكفيري الذي لا يسعى إلى استئصال المختلفين عنه فحسب، بل إلى استئصال كل نسغ متصل بالحياة، وكل ضحكة متصلة بالفرح، وكل لحظة تؤسس للمستقبل؟.
إن أدب أمين معلوف برُمَّته، هو المعادل الإبداعي لفكرة حوار الحضارات والانفتاح على الآخر، وهو بالتالي الرد الأبلغ على «هنتنغتون» وأمثاله، من المنادين بمبدأ الصراع الأبدي بين الثقافات والجماعات الدينية والإثنية المختلفة. وفي كنف هذا الأدب يظهر نزوع الذات الإنسانية الدائم إلى البحث عن تحققها فيما هو جوهري وخلاق ومتفاعل مع الذوات الأخرى، بحيث لا يعود الآخرون هم الجحيم، على ما يقول سارتر، بل يصبحون النعمة التي تنقذنا من الضجر، والمنارة التي تقودنا إلى بر الأمان، والمرآة التي نرى عبرها وجوهنا الحقيقية. إن كل عبارة كتبها معلوف، هي جزء لا يتجزأ من مشروعه الحضاري الذي يرى مع أبي العلاء المعري، أن الإنسان ليس مجرد جرم صغير في الكون الهائل، بل هو الكائن الأسمى الذي ينطوي فيه العالم الأكبر.
وعليه أن يكون بالتالي محور كل عقيدة ودين ومذهب وسياسة وعمل إبداعي. وهو لم يخرج في رواياته كلها عن هذا السياق، ولم يشذ في أعماله الفكرية الموازية عن هذه القاعدة.
وفي كتابه المميز «الهويات القاتلة» يبذل الكاتب كل ما يستطيعه من جهد؛ ليدحض النزوع الشوفيني عند الكثير من القوميات، التي تسبب تعصبها الأرعن في تحويل العالم – عبر حربين عالميتين وعشرات الحروب الأهلية والدينية والعرقية – إلى مساحة آهلة بالمذابح والكوابيس والأوبئة المختلفة.
لا بل إن عضو الأكاديمية الفرنسية لا يتوانى، في دحضه لفكرة الهويات الصافية، عن الاستعانة بسيرته العائلية، وهو المنتسب إلى الهويتين اللبنانية والفرنسية، والمنتمي دينياً لأب كاثوليكي وأمّ مارونية وجدّ بروتستانتي، ويشاطره في ذلك ملايين البشر المنتمين مثله إلى هويات متعددة.
وأغلب الظن أن الشاعر الراحل محمود درويش كان في قصيدته «لو ولدتُ» يتمثل مقولة معلوف حول الهوية المركبة حين كتب: «لو ولدتَ من امرأة أسترالية، وأب أرمنيِّ/ ومسقط رأسك كان فرنسا/ فماذا تكون هويتك اليوم؟../ وإن كانت الأمّ مصريَّة/ وجدّك من حلبٍ/ ومكان الولادة في يثرب/ وأما أبوك فمن غزةٍ/ فماذا تكون هويتك اليوم»؟
لم يكن من السهل بالطبع، أن ينيط صاحب «الحروب الصليبية كما يراها العرب» بنفسه، مهمة وصل ما انقطع بين الأمم والهويات المتصارعة، خاصة وأن نظام العولمة الذي أعلنه الغرب، قبل عقدين من الزمن، لم يؤتِ ثماره إلا على صعيد الاقتصادات المهيمنة وتوحيد السوق بشروط الأقوياء، فيما على المقلب الآخر راحت تتصاعد حمَّى الولاءات العصبية والقومية والكيانية والدينية وغيرها.
لكن أهلية معلوف لصياغة فكرة التشابك الحضاري بين الأمم أو المواطنية الأممية، ولو من موقع مغاير للماركسية، لم تكن وليدة الصدفة المجردة، بل دعمها بشكل أساسي انتماء الكاتب إلى إحدى أكثر الأسر اللبنانية تجذراً في التربة المشرقية، واحتفاءً بالثقافة والإبداع، بدءاً من المؤرخ الشهير عيسى إسكندر المعلوف، مروراً بالشعراء المعروفين فوزي ورياض وشفيق المعلوف، وليس انتهاءً بأبيه الصحفي والشاعر رشدي المعلوف.
ولعل اهتمام هذه الأسرة بالتاريخ، هو الذي أصاب بعدواه الكاتب الصحفي الذي انطلق من مكاتب جريدة «النهار» اللبنانية، باتجاه العاصمة الفرنسية بحثاً عن ملجأ آمن يقيه مخاطر الحرب الأهلية الضارية في لبنان السبعينات، ليصبح فيما بعد أحد أهم رموز الكتابة بالفرنسية من جهة، وأحد أهم روائيي العالم من جهة أخرى.
وفي كتابه «البدايات» يسلط معلوف الضوء على منابعه المعرفية ونزوعه الفطري إلى الانفتاح، من خلال حيلة روائية معروفة، قوامها العثور على الأوراق والرسائل الشخصية التي تركها وراءه جده بطرس المعلوف المتشبث بتراب أرضه الأم، فيما اختار شقيقه جبرائيل أن يهاجر إلى كوبا؛ ليحقق هناك أحلاماً باذخة في السلطة والثراء، ما لبثت أن انتهت بحادثة سير مروعة.
التاريخ في خدمة الرواية، هو الشعار الذي توسله أمين معلوف؛ لكي يصنع مجده الأدبي من جهة، ولكي يوصل إلى العالم رسالة في المحبة والتآزر بين البشر قل نظيرها. وإذا كان اللبناني الآخر جرجي زيدان قد سبقه بقرن ونيف من الزمن، فإن معلوف أفاد أكثر من سلفه، من التقنيات المتطورة للرواية العالمية، ومن كوزموبوليتية مشرعة على الجهات الأربع للأرض، سمحت له إقامته في باريس، بأن يمدها بأمصال التسامح والتبتّل المعرفي، والإصغاء غير المحدود لأصوات الآخرين. وإذا كان البعض قد حاول التصويب على تجربة أمين معلوف، من خلال اختياره للفرنسية لا العربية كلغة للكتابة، فإن أي نظرة منصفة للأمور، لابُدّ وأن تأخذ في حسبانها أن قلب الكاتب ظل ينبض فوق الجبال المطلة على المتوسط من جهة الشرق، وعلى مقربة من «صخرة طانيوس» التي لم يحُلْ وجودها في مرتفعات لبنان دون حصول حارسها العاطفي والإبداعي على جائزة غونكور، الأعلى رتبة والأكثر أهمية بين الجوائز الفرنسية.
ولن يضير أمين معلوف في شيء، أن يتهمه آخرون بالاتّكاء على التاريخ كمصدر أساسي من مصادر رواياته.
إذ إن ما أخذه الكاتب عن التاريخ لا يتعدى الوقائع والأحداث المعروفة والعامة، والتي لو أخذها سواه فلن يصنع منها سوى حكايات رديئة السبك والمقاربة.
فيما استطاع معلوف، بمخيلته النادرة واستشعاره المرهف والعميق بدبيب الزمن وتصرُّم الدول وتبدُّل المصائر، أن يبعث أبطاله من عهدة الماضي البعيد، متعقباً حركاتهم وسكناتهم وحزنهم وفرحهم، وعثراتهم وانتصاراتهم، كما لو أنه شاركهم بنفسه كل تلك المشاعر والمكابدات. ولعل ما جعلنا أكثر شغفاً برواياته، هو اختياره أبطالاً تراجيديين واقفين على مفاصل الأزمنة ومنعطفاتها الأكثر خطورة.
وهم بدورهم ممزقون بين الخيارات ومحقونون بخلائط الولاءات والأسئلة المؤرقة. ومع ذلك فهم يكافحون بضراوة من أجل البقاء، متسلحين بالإرادة والصبر والوثوق من انتصار الإنسان في حربه مع العدم.
كذلك كان شأن الحسن الوزان الذي غادر الأندلس بعد سقوطها باحثاً في المغرب ومصر وإيطاليا عن معنى ما لوجوده، ومتحولاً بعد ذلك إلى «ليون الإفريقي» المقيم مكرَّماً في البلاط البابوي.
وهو أيضاً شأن ماني، الداعية الفارسي إلى المساواة بين البشر، والمنحاز إلى الموسيقى والفن والحب في عالم الثنائيات المنقسمة بين الخير والشر. وكذلك هو شأن عمر الخيام في رواية «سمرقند»، حيث يتابع المؤلف قصة الرباعيات الشهيرة، متقصياً في الوقت ذاته علاقة الخيام الملتبسة مع السلطة المتمثلة في نظام الملك، ومع المعارضة الدموية المتمثلة في الحسن الصباح وفرقة الحشاشين، التي أسست لأشكال بالغة العتو، من العنف والاغتيال الفردي والجماعي، للخصوم السياسيين والمذهبيين.
وفي «التائهون» يضيف أمين معلوف رحلة جديدة إلى رحلات أبطاله السابقين، متقمصاً بشكل أو بآخر صورة آدم الهارب من جحيم الشرق، نحو بقعة للأمان تقيه من سكاكين سدنة الظلام والموت الذين يصفهم بالقول: «لأن لهم ديناً يظنون أنهم معفيون من أن تكون لهم أخلاق».
إن قراءة روايات أمين معلوف وأعماله الإبداعية المتنوعة، ترفدنا بشيء من الرجاء والإيمان بمستقبل الحياة على الأرض. ذلك المستقبل الذي حذرنا الكاتب المبدع من خسارته، حين قال: «إننا نجد بسهولة العزاء لفقدان الماضي، ولكن ما من شيء يعزينا لفقدان المستقبل».
_____
*الخليج الثقافي