أشعار الهايكو‮: ‬ما الســر وراء انتشــارها عالميا؟




خلود الفلاح*


ما دمنا نتحدث عن عمل أدبي فلابد أن يتسرب المجاز إلى هذا العمل شئنا أم أبينا، ‮ ‬فمعظم ألفاظ اللغة حاملة لمجازات تشربتها عبر التاريخ ولعل أبلغ‮ ‬دليل على ذلك وأبسطه تعدد معاني الكلمة الواحدة مما يدل على أنها تعرضت إلى انزياحات متتالية تضم فيها كل مرة معني جديدا مختلفا‮.‬
قصر القصيدة البالغ، ‮ ‬وما أحب أن أسميه البساطة الفادحة التي تبادهنا بها قصيدة الهايكو على نحو يجعلنا مشدوهين، ‮ ‬حتى أن هناك في الغرب من يسميه‮ (‬شعر الاندهاش‮).‬
ضمن سلسلة كتاب مجلة‮ “‬شؤون ثقافية‮” ‬الشهرية الليبية التي كان يرأس تحريرها الشاعر الراحل صلاح عجينة وبوفاته توقفت المجلة عن الصدور، ‮ ‬صدر قبل سنوات قليلة كتاب‮ “‬سادة الهايكو‮: ‬مختارات من قصيدة الهايكو اليابانية في أربعة قرون‮”‬، ‮ ‬ترجمة الشاعر عاشور الطويبي تقديم المترجم الليبي عمر أبو القاسم الككلي‮. ‬
تصفيق اليد الواحدة
يبدأ الكتاب بمقدمة عنوانها‮ “‬أشعار الهايكو‮: ‬تصفيق اليد‮ ‬الواحدة‮”‬، ‮ ‬يعرض فيها عمر الككلي نشأة شعر الهايكو،‮ ‬الذي قد يكون أقصر شكل شعري في العالم في البيئة اليابانية حسب رأيه، ‮ ‬ولكنه أصبح في النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرة عالمية في العديد من دول العالم وبالنسبة للبلاد العربية، ‮ ‬يعتبر الككلي أن معرفته مازالت مقتصرة على أوساط الكُتاب والترجمات المتناثرة في الصحف والمجلات وإن كانت في الغالب مترجمة عن الإنجليزية أو الفرنسية‮. ‬أما على صعيد الأدب الشفهي فيقول الككلي‮: “‬يوجد شكلان شعريان يماثلانه قصرا، ‮ ‬معروفان في النواحي الشرقية من ليبيا، ‮ ‬هما ما يعرف بغناوي العلم والشتاوة‮”. ‬
الهايكو والترجمة
يقول القاص والمترجم عمر الككلي‮: ‬تواجه الترجمة عموما‮ ‬صعوبات تتعلق باختلاف المعطيات اللسانية بين لسان وآخر وكذلك في العناصر الثقافية‮ ‬غير المنظورة المضمرة في مفردات وتعابير كل لسان، ‮ ‬ويضيف‮: “‬هذه الصعوبة تزداد وتأخذ بعدا خاصا فيما يتعلق بترجمة الهايكو، ‮ ‬ربما بسبب من بساطته الخادعة‮”‬، ‮ ‬ويورد مثالا قصيدة‮ “‬الضفدعة‮” ‬للشاعر ماتسو باشو مؤسس الهايكو والتي لها في الإنجليزية أكثر من مئة وسبعين ترجمة، ‮ ‬الترجمة الأولي وفقا للككلي تعود لسنة‮ ‬1898‮ ‬قام بها الشاعر لا فكاديو هرن وتوالت الترجمات بعد ذلك، ‮ ‬فهناك ترجمة كنث ياسودا، ‮ ‬نوبويوكييواسا، ‮ ‬تنكو فو شيرايون، ‮ ‬وعن نفسه فقد قام بترجمتها عن الإنجليزية منذ سنوات‮. ‬
بركة قديمة‮/ ‬تقفز إليها ضفدعة‮/ ‬صوت الماء‮. ‬
‮ ‬وعن الفرنسية ترجمها محمد الدنيا‮: ‬بركة ماء قديمة‮/ ‬ضفدعة تغطس فيها‮/ ‬صوت الماء‮. ‬
سر الجاذبية؟
يعتبر الككلي أنه مادام استعمل لفظة‮ “‬سر‮” ‬في التقديم للكتاب فإن هذا يعني ضمنا أنه يعتقد أن جزءا على الأقل من هذه الجاذبية ينبع من منطقة‮ ‬غامضة لأن الهايكو، ‮ ‬رغم بساطته شديد الغموض، ‮ ‬ويحاول في هذا الجانب أن يحدد الجوانب التي يظن انها من عناصر الجذب فيقول‮: “‬قصر القصيدة البالغ، ‮ ‬وما أحب أن أسميه البساطة الفادحة التي تبادهنا بها قصيدة الهايكو على نحو يجعلنا مشدوهين، ‮ ‬حتي أن هناك في الغرب من يسميه‮ (‬شعر الاندهاش‮)‬، ‮ ‬الاعتماد على تجسيد الصورة الحسية وحفز قابلية التأمل لدي المتلقي، ‮ ‬بسبب ما يسميه ديفد لاندس بارنهل‮ (‬الإيهام المفتوح‮)‬، ‮ ‬أيضا خيط الدعابة والمفارقة وفي هذا المجال ينبغي ألا ننسي أن الهايكو بدأ باعتباره نوعا من الشعر المضحك في العصور الوسطي‮”. ‬
اللاذاتية والمجاز
يقول الككلي‮: ‬الذات هذه الطاقة الغامضة فائقة الدهاء، ‮ ‬‮ ‬البارعة في أساليب المداورة، ‮ ‬تقاوم كل محاولات المحو وتثبت حضورها مبدئيا من خلال اختيار موضوع القصيدة ولغتها، ‮ ‬ثم تهرب نفسها متسربة إلى قصيدة الهايكو بآليات تستعصي على المنع، ‮ ‬للتواجد هناك في بعديها الإنساني العام والفردي الخاص ويورد في هذا السياق تعليق الباحث روبرت هاس حين يذكر بأنه اكتشف، ‮ ‬بعد سنوات طويلة من تصديق ما كان يقال له بأن الهايكو ليس ذاتيا على الإطلاق‮. ‬
وبالنسبة لحضور عنصر المجاز في العمل الأدبي يري الككلي انه ما دمنا نتحدث عن عمل أدبي فلابد أن يتسرب المجاز إلى هذا العمل شئنا أم أبينا، ‮ ‬فمعظم ألفاظ اللغة حاملة لمجازات تشربتها عبر التاريخ ولعل أبلغ‮ ‬دليل على ذلك وأبسطه تعدد معاني الكلمة الواحدة مما يدل على أنها تعرضت إلى انزياحات متتالية تضم فيها كل مرة معني جديدا مختلفا، ‮ ‬يضيف‮: ‬ودور العمل الأدبي يتمثل في أنه يتيح للألفاظ تفتيح طاقاتها المجازية، ‮ ‬إلي جانب ذلك فإن القارئ يفترض بجرد شروعه في قراءة عمل أدبي ما، ‮ ‬أنه داخل إلى دنيا المجاز، ‮ ‬لذلك يظل يبحث عنه ويحاول تخليقه من خلال العلاقة التي تقيمها ذائقته الجمالية وحسه الفني ومخزونه الثقافي مع دنيا النص‮. ‬ولتأكيد وجهة نظره يورد الككلي آراء لبعض البحاث والمهتمين فمثلا يؤكد الياباني هارو شيران على الفارق الجوهري بين المجاز في الهايكو والمجاز في‮ ‬غيره من أشكال الشعر الأخري وهو أن الهايكو يتقصد أن يكون لا مباشر إلى أقصي حد وغير ظاهر، ‮ ‬فالمجاز في الهايكو الجيد عادة ما يكون دفينا في القصيدة‮. ‬
خمسة عشر شاعراً
في الجزء الثاني من الكتاب تأتي ترجمة القصائد التي قام‮ ‬بها الشاعر عاشور الطويبي لخمسة عشر شاعراً‮ ‬يصل عدد القصائد المترجمة لكل شاعر إلي‮ “‬127‮” ‬قصيدة، ‮ ‬ولعل هذا ما جعل عمر الككلي في تقديمه للكتاب يقول‮: “‬لعل هذا الكتاب المخصص لأشعار آباء الهايكو الذي ترجمه الشاعر عاشور الطويبي هو أول كتاب في العربية بهذا الحجم‮”. ‬
القصائد المترجمة يجمعها حس إنساني أنيق حول فهم عميق للحياة، ‮ ‬مختزلة في عدد قليل من الكلمات، ‮ ‬شديدة الغموض حينا، ‮ ‬بسيطة في قربها من المتلقي حين تلامس نقاط إنسانية داخله وهؤلاء الشعراء هم‮: ‬ماتسو باشو‮- ‬كوباياشيإيسا سانتوكاتانيدا‮- ‬تاكاهاما كيوتشي‮- ‬وغيواراسيسينو‮ ‬ شوسونكاتوسيتشي ياماغوتشي‮- ‬ناغاتا كاو شوين ناكاغاوا‮- ‬شويني هوساي أوزاكي‮- ‬ناتسوميسوسيكي رويكان ماسوكا شيكي‮. ‬
ألق الصباح أيضا‮/ ‬بدأ‮/ ‬إنه ليس صديقي‮. ‬ماتسو باشو
كوبي القديم لم ينكسر بعد‮/ ‬أنا في الأربعين‮. ‬أوغيوارا سيسينو
اسأل الريح‮/ ‬أية ورقة ستسقط أولا‮. ‬ناتسومي سوسيكي
* أخبار الأدب.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *