قراءات في أشعار جلال الدين الرومي


*

استعرض د. محمد مقدادي سيرة الشاعر الصوفي جلال الدين وحياته، كما توقف عند رحلات جلال الدين مع أسرته ولُقبَه والبيت الذي نشأ فيه وشيوخه وحينما بلغ الثامنة والثلاثين من عمره التقى بعالم صوفي جاء على غير انتظار إلى مدينة « قونية «، وكان تلا المحاضرة وصلة غنائية للفنان المغيرة عياد.

وقال د.مقدادي في المحاضرة التي أدارها د. سلطان الزغول أن حضورُه أحدث انقلاباً جذرياً في حياة جلال الدين، وكان هذا الزائر الغريب هو العالم هو « شمس الدين تبريز» الذي بدّل كل شيء في حياة جلال الدين وسلوكه، حيث تخلّى عن ممارسة التدريس وإمامة الناس في الصلاة، وذهب إلى ممارسة الرقص وضرب الأرض بالقدمين وكتابة أناشيد الغزل المؤثِّرة، وهو ما أثار حفيظة مريديه والفقهاء المجايلين له، ودفعهم للثورة عليه ، مما أجبر « خليله» شمس الدين تبريز على مغادرة المدينة إلى الشام، ولمّا لم تفلح محاولات جلال الدين في إعادته ثانية، فقد أوفد ولده « سلطان» إلى دمشق ليعود وبرفقته شمس الدين إلى قونية، لتندلع ثورة المريدين والفقهاء كسابق عهدها، بل إنهم أباحوا سفك دم شمس الدين الذي قيل أنه قُتل في مكان مجهول.
وقال في المحاضرة التي نظمتها جمعية النقاد الأردنيين بالتعاون مع فرع رابطة الكتاب بعجلون أصاب مولانا جلال الدين ما أصابه من شوق لخليله ومعلّمه، فامتطى راحلته وتوجه إلى دمشق في محاولة للعثور على شمس الدين، لكنه فشل وعاد أدراجه إلى قونية متلفعاً بحزنه وملتحفاً لوعة الغياب الأزلي، وراح يتولى إرشاد تلامذته ومريديه في صورة صوفية خالصة، وظلّ على هذا الحال إلى ما قبل وفاته بخمسة أعوام حيث ذهب في خلوته وتخلّى عن الإرشاد والإنشاد، مقتصراً لقاءاته بمريديه على حلقات الذّكر أو ما يسمى « مجالس السّماع « التي يتم فيها العزف والإنشاد والرقص والدوران.
وأشار د. مقدادي في المحاضرة التي أقيمت في مدرج القرية الحضارية إلى أن حياته ظلت تسير على هذا المنوال، حتى اللحظات الأخيرة من عمره، والتي شهدت معاناته مع الحمى الحارقة، لكنه، وقبل أن تفيض روحه إلى بارئها نظم بيتين: وقيل إن هذا آخر ما نظمه من الشعر، حيث بعدها أفِلَت شمسُ مولانا جلال الدين في صبيحة يوم الأحد الخامس من جماد الثاني 672هـ عن ثمانية وستين عاماً .
كما أشار إلى أن جلال الدين ترك آثاراً نثرية اشتملت على مواعظه وخطبه ورسائله ومذكراته التي ناقش بها جملة من المسائل الأخلاقية والعرفانية وفسر آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وأقوالاً للأئمّة وكبار الصوفيّة ، كما أنه خلّف آثاراً شعرية اشتملت على الرباعيات، والمثنوي.
وتوقف عند ديوان شمس تبريز، كتبه جلال الدين الرومي بالفارسية أيضاً، وعمل على ترجمة مجموعة من غزلياته د.عيسى علي العاكوب، تحت عنوان « يد العشق» .
وبين أن موضوع هذا الديوان الرئيس هو (الغزليات) والغزليات في الشعر الفارسي هي أشعار موضوعها العشق المنزّه عن كل مأرب أو غرض، إنه عشقٌ صافٍ، وحبٌّ عفيف، تعبِّر الأشعار فيه عن نوازع النفس التي يعذبها الهجر والغياب، النفس التواقة للقاء المعشوق والتنعّم بوصله والقرب منه والامتلاء به، النفس التي ترجو ماترجوه من معشوقها تضرّعاً وابتهالاً ومناجاة لا تنقطع.
وذكر من معاناة العاشق وما يقاسيه جراء النأي والجفاء ما نظمه « الرومي «:
«إذا كنت لا تعرف العشق فاسأل الليالي
أسأل الوجه الشاحبَ وجفاف الشّفاه
فمثلما يحكي الماء عن النجوم والقمر 
تحكي القوالب عن العقل والروح
وبين مائة شخص يظهر العاشق وضّاءً
كالقمر اللألاء بين الكواكب في السماء.
من لديه قلبٌ كالخَضر، الذي ذاق ماء حياة العشق
تكسُدُ عندَه مشاربُ الزُّلال.» 
وقال الشاعر إن أهمّ ما في أمر العشق هو أن يكون العشق جمالياً، ولا يتحقق الشرط الجمالي للعشق، إلاّ حينما يتحقق شرطُهُ الإنساني، وهذا يمثّل انعكاساً للحسِّ الفطريّ بجماليات العشق ومسؤولياته للنّأي به عن مراتع الغرائز المتأجِّجة في النفس البشرية التي تتهاوى في مستنقعات الرذيلة والانحراف ، ولا يحررها من عبودية الشهوات شيءٌ غير العشق الذي بالعناء وحده يوصل العاشق للعناية والنور.
ها قد أمسكتَ بأذني، فإلى أين تمضي بي؟
عندما يغدو الغلام» العبدُ» شيخاً يحرّره سيّدُه
وعندما صرت شيخاً ، استعبدتني من جديد.
ألا يُبعث الولدانُ شيباً يوم القيامة؟
لكن قيامتك جعلت الشيوخ سودَ الشَّعر
ولأنك تحيي الموتى ، وتجعل الشيوخ شباباً
التزمتُ الصمتَ، وانشغلتُ بالدّعاء.»
وبين المحاضر أن جلال الدين استغل ما لديه من إمكانات معرفية في الكشف العميق عن دلالات المعاني، وملاحقة الشّارد منها واقتناصه ، ونَزَعَ الأقنعة التي تتدثّر بها الحقائقُ الغائبة عمّن لم يبحر في عالم العشق.
وختم بالقول إن ما قدّمه الرومي من غزليات في المختارات التي تُرجمت من ديوان « شمس تبريز» يفصِحُ عن صورة رفيعة من صور تعلّق روحه العاشقة بمعشوقه الذي استبدّ به حبُّهُ وأضناه، حتى ملك عليه اللّبَّ والفؤاد، وظلّ أسيراً لمشاعره التوّاقة لملاحقة أثر المعشوق وتحقيق الوصل المرتجى به ، من قلبٍ سَمَت به اشتعالاتُهُ حتى بلغ به طهرُ الهيام، وعذابُ الشّغف كلَّ مبلغٍ.
________
*الرأي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *