*مصطفى الحمداوي
خاص ( ثقافات )
إنها كائنات تتمرد على واقع ونسق الكتابة الروتيني المألوف، لترسم لنفسها مصيرا هو المصير الحتمي لهذه الكائنات المتباينة، التي برعت الكاتبة العمانية ليلى البلوشي في تشكيلها. “كائناتي السردية” هي عبارة عن مجموعة قصصية تتكون من 21 قصة، والملفت للانتباه في هذه القصص هو أنها تتوزع على أنماط متباينة من الشخوص والأحداث التي صيغت بمهارة وإتقان شديدين، حتى يتبادر للذهن وكأن هذه الأحداث كتبت نفسها بنفسها، فلغة كل قصة وأسلوبها السلس، يتماشى تماما مع تيمة القصة وموضوعها. ومن هنا نقف على قدرة الكاتبة في استنطاق كائناتها والابتعاد بنفسها عن المشهد، وكأن الكاتبة غير معنية في فعل تحريك خيوط السرد، الذي ينساب هادئا سلسا مطواعا كما لو أنه يفرض سلطة قهرية في كل حدث يميز حدث آخر عن حدث آخر في قصة أخرى، وهذا التنوع، المثير للإعجاب حقيقة، يُظهر مدى اطلاع الكاتبة على الأدوات الفنية والتقنية للكتابة، وتحكمها البارع في حركة سير الأحداث، إلى الدرجة التي تكاد تغيب فيها الكاتبة، لتفسح لكائناتها كامل الحرية في تصريف الشؤون على الطريقة التي يرونها الأنسب لواقعهم وموقعهم داخل كل قصة.
ورغم ذلك، هناك تلك اليد الناعمة، والنظرة الوديعة، والنفَس الدافئ الذي ينتقل كالفراشة بين جملة وأخرى، بين حدث وآخر، وبين قصة وقصة، ليعلن بوضوح عن كاتبة مستترة في الخفاء، تُلاعِب وتتلاعب بكائناتها بلطف ووداعة. مرة تجعلهم يبتسمون، ومرة أخرى تستفزهم ليغضبوا ويتمردوا على هذا العالم غير العادل… لتصدمنا في إحدى القصص وهي تستنطق براءة بداية الأنوثة عند فتاة ناشئة تتعرف على تفجر نضج جسدها لأول مرة، وبدا واضحا أن تفاعل الكاتبة إبداعيا مع حدث نفسي حاد في وقعه على حواس أنثى في بداياتها، كان عميقا ومتسما برؤية نافذة وعملية. إنها جرأة كاتبة تبرع في جر القارئ من حالة إنسانية إلى أخرى، ومن حدث صادم إلى آخر، لتفرض على القارئ سلطة خفية، سلطة تتجلى في كشفها عن الحقائق التي يريد أغلبنا الهروب منها، لكن الكاتبة تضع هذه الحقائق وسط لعبة مرايا، أينما وليت وجهك، ستجده هناك..ويا لقسوة ما ستجد، ويا لفظاعة ذلك الواقع التعيس الذي يحاول أغلبنا الهروب منه، تماما كما نقرأ في قصة ” صائد الفئران ” مثلا، إنها قصة مؤثثة بفضاء أسطوري عجائبي بليغ، وهو الانطباع الذي نستطيع بسهولة إسقاطه على قصة ” آكلو الولائم “، فهذه القصة أيضا تزخر بأحداث ومشاهد لا تبتعد كثيرا في جوهر صورها عن قصة ” صائد الفئران “، وإن على طريقة مختلفة ومتفردة جدا.
ولكن المجموعة القصصية ليست فقط على هذا الوجه الكئيب الذي قد يتبدى للبعض من الوهلة الأولى، بل هناك إشراقات كثيفة تحتفل بالحياة، وتتوغل إلى النفس البشرية، لتخرج تلك الزهرة البديعة..الزهرة الفاتنة التي تبهج القارئ، وتفعمه بزخم كبير من التفاؤل، ونجده هذا واضحا في قصة ” شجرة أحلام “، القصة الحالمة، المكتوبة بأسلوب رومانسي أنيق، وبوداعة لغوية ماهرة، تنساب إلى الروح راسمة هالة عجيبة من الدفء في نفس القارئ، وهو يتنقل بحيوية وعنفوان ذهني بين كل جملة وأخرى، وبين كل صورة استعارية وأخرى، قصة تفيض بالنفَس الشعري والشاعري، وتغمر القارئ بدهشة القراءة الماتعة..وهو الشيء نفسه الذي يلفت انتباهنا أيضا في القصة الساخرة ” بورخيس = بورخيص “، التي استعملت فيها الكاتبة ليلى لعبة لغوية لطيفة، أدخلتنا لبرهة قصيرة جدا في عالمها الذي يغلب عليه طابع الكتب بامتياز، ولكنها لفتت انتباهنا، دون السقوط في مطب تجريح كرامة الآخر، إلى حقيقة مفادها: ليس كل من يبيع الكتب، هو بالضرورة محبا للكتب أو قارئا ومطلعا على خبايا القراءة، فالبعض يتخذ من هذه المهنة مجرد تجارة بسيطة لسد الحاجة في زمن لا أحد أصبح يهتم فيه بالكتاب.
قدرة الكاتبة في مجموعتها ” كائناتي السردية ” تتأتى من استنباط حالات تتفاوت بين ما هو جمالي وما هو إنساني، متسلحة برصيد لغوي باذخ الثراء، وبمعجم دسم متخم بسحر الكلمة البديعة، التي تشكل كل حالة وفق منظور أدبي عميق، ووفق آلية فنية وتقنية، تجسد الأبعاد المتعددة لثقافة الكاتبة الواسعة المستمدة من قراءة الأدب الجيد، الذي يبدو واضحا في اللمسات التي تنفلت غزيرة من نصوصها القصصية.
نجحت ليلى البلوشي في رسم حيوات متعددة ضمن حيز مجموعة قصصية بارعة مضمونا وشكلا، وصنعت كائنات سردية مثيرة في غرائبيتها أحيانا، ومغرقة في التجربة أحيانا أخرى، ومنغمسة مرارا في الواقعية الاجتماعية، التي نقلتها بريشة فنان يتقن عجن الأوان ومزجها، لتفرز تشكيلا يبهر الناظر ويحاكمه، ويتعارك معه، ويتشابك في الأخير مع الجميع، في غواية جدل لا ينتهي أبدا. إنه الخطاب الذي توزعه علينا ليلى البلوشي دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن المتلقي، فليلى لديها كائناتها التي تتربص بالقارئ، وتنفرد به، وتغمره بالمتعة والانتشاء والتفاعل مع الأحداث الغنية، التي تعج بها المجموعة القصصية.
إن المزيج العجيب من الشخوص الذي تتيحه الكاتبة ليلى البلوشي في مجموعتها الماتعة ” كائناتي السردية “، يتفاوت من حالة إلى أخرى، ومن شكل إلى آخر. سنلاقي صائد الفئران بطباعه الغريبة، وسنقرأ في عمق هذه الشخصية تحليلا عميقا لنفسية غير مستقرة، نفسية الضد ضد الضد، ونفسية العجز والقوة الشرسة البغيضة، إنها انفعالات شخص غير متوازن، يعيش بيننا، ويحيى في حياتنا، ولكنه ليس بالضرورة ذلك الكائن الإيحائي الذي قدمته الكاتبة ليلى، قد يكون أي واحد يقترب قليلا أو كثيرا من تلك الشخصية.
وفي القصة البارعة والمذهلة “ليلة اثنين وستين 1″ و” ليلة اثنين وستين 2 “، التي أتقنت الكاتبة رصد حالة وجودية موغلة في العمق، ورسمت عناصر تشكل الصراع الإنساني الدائم مع الزمن، هذا الصراع الذي لا يتوقف إلا بانتصار أحد على الآخر. قصة مثيرة للإعجاب، وصلت بها الكاتبة إلى ذروة المتعة التي يمكن للقارئ أن يحصل عليها في قراءة نص متخم بلغة شائقة، لغة تزوق، بمنتهى المهارة والأناقة، أيقونة مجموعتها القصصية المبهرة. إنها قصة من جزأين، ولكنها قصة واحدة مركبة أبدعت الكاتبة في صياغة تقنيتها بمقدرة ابتكاريه عالية.
بعد قراءتنا للمجموعة القصصية البارعة، نظل نؤمن بأن الكاتبة ليلى البلوشي لم تقل بعد كل ما أرادت قوله في هذه المجموعة، هناك منسوب من الجرأة تقترب منه، ولكنها لا تحاذيه تماما، وهي بهذه الطريقة، تتلاعب بشغف القارئ، إنها الغواية التي تجعل من النص الأدبي محافظا على عذريته، ولا يكشف تفاصيل جسده الفاتن بالكامل، تاركا ذلك للقارئ الحاذق، ليقرأ النص بعمق، وبرؤية تعكس أو تتقاطع مع رؤية الكاتبة في هذه المجموعة القصصية، التي تبقى مفتوحة على جميع التأويلات، فالأحداث في هذه القصص لا تفصح عن نفسها بسهولة، بل لا تمنح نفسها بالمجان، إنها ترغم القارئ على بذل مجهود حقيقي للوصول أو الاقتراب من حقيقة القصص والأحداث التي لن تكون، في كل الأحوال، نهائية أبدا.
” كائناتي السردية “، هي مجموعة قصصية متمردة وجريئة، مجموعة قصصية تحاول إزاحة الظل من على المرآة، مرآة جدران البيوت والمتاجر والشوارع والمدارس..والأجساد أيضا.. لتفضح سلوكيات وعادات وتقاليد تكبل خطوات مجتمعاتنا، لتجعل هذه المجتمعات أسيرة لصورها الحقيقية، ولتحملها المسؤولية كاملة في التعامل مع واقع تعيس بما يلزم من جرأة الصرامة في تغيير الكثير من الانطباعات المسبقة، والمسيئة في النهاية. إنها لعبة الظلال التي تقترحها علينا الكاتبة العمانية المقتدرة ليلى البلوشي في مجموعتها القصصية الباذخة في سحرها وفتنتها ” كائناتي السردية “.